في مساحة العلاقة الممتدة بين نصوص محمد الفخراني السردية والمتلقي، تكتشف القراءة النقدية خطة ذكية يُضْمرها الكاتب، ويضع فيها قرَّاءه، حالة من الالتباس والمكر المحبَّب التي يُوقع فيها الجميع، ففي كل نَص جديد للفخراني سيجد المتلقي مواجهاتٍ سرديةً فريدة، حالة فنية غير معتادة، فالكاتب يمارس التجريب والإبحار في عوالمَ إنسانيةٍ مدهشة، يخلِّقها، ويعرِض فيها لأفكار مغايرة؛ يفسر الحياة بطريقته ومكوِّنات الوجود، ولذا سيبدو قارئ نصوص الفخراني مدعوًّا لحالة من التأهب للجديد والممتع معًا في كل إصدار له، حيث دهشة العوالم الغرائبية، التي يهيِّئ لها، تلك التي تستدعي النظر العميقَ وتأمل الحيوات والشخصيات، في آخر رواياته “حدَث في شارعي المفضَّل” يختفي اللون الأصفر من الحياة، ثم تختفي النوافذ، وإذا بالشوارع المحبَّبة لكل فرد تختفي من الوجود، ثم يختفي البشر، وترحل الأرض إلا موقعًا صغيرًا لبيت طيني، يسع امرأة أرضية.
لا يقدِّم الفخراني لقرَّائه حالة من اللهاث فوق أسطُر الحكي، أو التشويق المتناهي، ولا دهشة الفضول والإثارة القصوى؛ بل الدهشة السهلة العميقة، التي تتكون حثيثًا، الدهشة التي تدعو لنمو الأفكار الجدلية والممتعة معًا.
لماذا يُعد محمد الفخراني كاتبًا نوعيًّا مميَّزًا؟
لأنك لا تتوقع عالَمَ النَّصِّ ولا فضاءاتِه، يعالج قضاياك دون أن يحاكيها أو يكررها؛ بل يخلِّقها بصورة إنسانية متفردة، الفخراني يناوِش الواقع، ويجعلك تتأمله؛ فتصبح أكثر توثُّبًا للمعرفة والتمسُّك بإنسانيتك، حيث يلعب على مشاعرك المرهَفة للغاية، لا العادية.
ففي نصوص الكاتب مثلًا: “قبل أن يعرف البحر اسمه” و”ألف جناح للعالم” و”فاصل للدهشة” و”لا تمت قبل أن تحب” و”مزاج حر” و”غذاء في بيت الطباخة” وآخِر نصوصه ”حدَث في شارعي المفضَّل”، تجد حكاياتٍ وشخصياتٍ وأجواءَ وطقوسًا مخلَّقة في مخيِّلته؛ بمعنى أنه لا يحاكي الواقع، لكننا في الحقيقة نكتشف أنه يحاكيه بطريقته، بأسلوبه الفني، لا يجسد الشخصيات ولا أحداثها؛ لكنه في الحقيقة يجسدها ويصِفها في مناطقها البراقة الإنسانية، تلك التي يريد إبرازها، لا يقترب من القضايا التي تتوالَى على يومياتنا، لكنه شديد الاقتراب منها، ومن أدق تفاصيل حياة البَشر.
يوهمك الفخراني في حكْي نصوصه بالعادية والسهولة، لكن تكتشف أن للسرد أبعادًا متعددة، أبعادًا فكرية وإنسانية شديدة الاتساع، المبهر بالفعل هو هذا القدْر من التسامح مع العالَم والأقدار. تقول المرأة “الأرضية”، في نَصه “حدَث في شارعي المفضَّل”، بعد أن صارت الكائن الوحيد على البقعة الصغيرة، التي تبقَّت من الأرض: “لماذا أنا من نجوت؟ نظرت إلى صورتي في مرآة التسريحة، لم أكن أسأل بشكل حقيقي، ولا أريد إجابة، ظَهَر السؤال نفسه خفيفًا، بلا دراما، من الطبيعي أن يظهر، لست أنا من يسأل، هو السؤال يعبِّر عن وجوده، لم أتوقف عنده كثيرًا مع تفهُّمي لرغبته في الحضور، لا دراما..” 86، 87
وفي نَصه “غداء في بيت الطبَّاخة” يتناول الفخراني قدْرَ الفظائع والدمار البشري، الذي ينتُج عن الحروب؛ أي أنه يعالِج الحدَث الأكثر حضورًا في لحظتنا الراهنة، لكن لن تجد في النَّص أيَّ تفصيلة من الخطابات، التي ترِد في الحروب، التي نعيش أجواءها الآن، دون ذِكرٍ لتفاصيل صراع حرب محدَّدة، يتحدث الفخراني عن مطلَق الحرب، الحرب من منظور إنساني، يثمِّن الحياة، ويرفض الموت والدمار.
في روايته “حدَث في شارعي المفضَّل”، حيث يدور العمل عن نهاية الأرض، وكيف تعامَل معها الإنسان، بما لا يليق، ولم يثمِّن الكنزَ الذي يعيش عليه، فكلنا يلمس ويقرأ التغيرات المناخية الأخيرة، والاحتباس الحراري، وثُقب الأزون، وذوبان الثلوج، والتصحر، وغيره مما يتحدث عنه العلماء والمتخصصون، لكن لن تجد مفردة واحدة من هذه المظاهر في سردية الكاتب، كأنه يأنف المتداوَلَ من خطابات، ويرى أن أرحب خصائص الفن وميزاته أن يضعك في المساحات الإنسانية المطلَقة، فدون أن يقترب من تبعات كل هذه المظاهر بشكل مباشر، ودون أن تَرِد مفردة واحدة تقترب من الواقع اليومي لهذه القضية، يحكي عن فتاة أرضية، لها رائحة الأرض، تعشق الزراعة والأشجار والنباتات، وأخيها الرسام الماهر، الموهوب السهل يواجهان معًا رحيل الأرض، تقول الأرضية الساردة: “ما يحدُث ليس حرائق ولا زلازل ولا ذوبانًا للجليد، ولا براكين ولا فيضانات ولا إعصارًا ولا ارتفاعًا شديدًا في درجات الحرارة، ولا انخفاضًا، … لكن هذه المَرَّة الأرض نفسها ترحل، تتناقص، تذهب، تختفي، ومعها هذه المَرَّة تتناقص الأماكن وترحل وتختفي، الأرض بذاتها تقرِّر الرحيل، … هل كانت تحتاج مِنَّا، فقط بعض اللطف؟” 45، 46.
يقول الفخراني في أحد حواراته: أردت أن أكتب عن الحب، لكنني لم أكن أريد أن أكرر قصص الحب التي كُتبت كثيرًا من قبْل، كما أنني رغبت في سرْد قصة لا شبيهَ لها، لذا كتبت “لا تمُت قبْل أن تحب”. وفيها سيجد القارئ رواية شخصيات، تُكتنز بداخلها مشاعرَ عميقةً، لكنها غير محدَّدة، ومعانيَ وتفصيلاتٍ، مشاهدَ تحدُث، لكنها لا تكتمل، حيث لا تحقِّق الأقدار لقاءً بين البطلَين؛ لعائق في كل مَرة، ولا يتم التواصل الغريب إلا في نهاية العمل في موقف درامي عميق.
وتضع عنوانات روايات (محمد الفخراني) القارئ في مساحات ملتبسة، مناطقَ مراوغة، توحي لك منذ البداية بإشارة، فيأتي السرد ليأخذَك إلى عالَمٍ آخَر، وعلى القارئ أن يكتشف هذه العوالمَ المخلَّقة المخالفة للتوقعات، فكلَّما توغَّل في رواية “مزاج حُر”، على سبيل المثال؛ كلَّما أيقن أنه بإمكاننا أن نرى الحياة من مناظيرَ مختلفةٍ تمامًا عمَّا عهِدنا.
وتضعك استهلالات نصوص الفخراني – في الغالب – في مواجهة عالَمه المتفرد، الذي سيقدِّمه مباشرة، فمنذ المشهد الأول سينتقل القارئ لأجوائه مباشرة، هذه الأجواء التي قد تكون صادمة أو رومانسية، أو تقريرية، لكنه يستطيع أن يهيِّئ متلقي النَّص لأخْذة مباغتة، فيستحوذ على الأذهان، ففي “حدَث في شارعي المفضَّل” هناك بيان سردي، مكوَّن من سبْع جُمل تقريرية صادمة وغريبة، جُمل وعبارات متوالية، وَرَدَت منفردة منذ الصفحة الأولى، ثم ينمو السرد؛ ليتكشف هذا العالَم الذي يجسده الكاتب، يقول:
” أنا آخِر من تبقَّى من البَشر.
أوصاني أكثر إنسان أحبه أن آكل قلبه.
الأصفر لوني المفضَّل.
أتنقل في العمر، أستيقظ من نومي؛ فأجد نفسي انتقلت من عمري عشْر سنوات مثلًا للوراء، أو خَمْسًا للأمام.
أفضِّل المشْي على الطيران.
يمكنني الطيران لكنني لن أتكلم عن هذا الآن.
أعود بكم لأول كلامي: أنا آخِر من تبقَّى من البَشر
اختفى وجْه الأرض، لم يتبقَّ منه غير مساحة يقف عليها بيت طيني أعيش فيه، وحدي لا إنسان أو حيوان أو طائر أو بحر أو نهر أو صحراء أو شارع.” 11
وباستهلال آخر في “غداء في بيت الطباخة”، يواجه القارئ صراعًا داميًا بين جنديَّين في حرب ضروس بين فريقين مختلفَين، في خندق محدود المساحة، ويتقاتلان إلى أن يقيما حوارًا.
لطريقة سرْد النَّص عند الروائي، وهنا أقصد بنْية حكْي العمل وتنوعه الثري، ففي كل رواية لديه، تجد منحًى تجريبيًّا يتسق مع طريقة وزاوية تخليق العمل في المخيلة، فمثلا قد يشعر القارئ في “غداء في بيت الطباخة” أن الرواية بوليفونية؛ أيْ رواية أصوات، حتى أنه قد يُنطِق الحربَ ذاتها، ويفرِد لها فقراتٍ للتحدث، وتعبِّر عن نفسها من منظور مختلِف، رغم أن العمل كله قائم على تقنية “الراوي العليم”، الذي يسرد الأحداث من مسافة فوقية، وفي الوقت ذاته تشعر أن النَّص في الأصل قائم على الحوارية الممتدة بين شخصيتَي السردية.
في رواية “حدَث في شارعي المفضَّل” تتجسد الساردة امرأة، وتخاطب الرسام الموهوب، تخاطب البَشر قاطبة، وتكتب للأرض والحياة، المرأة التي احتوت كل النساء بكل أعمارهن، تقول: “غسلت الزيتون الذي جمعته أمس بماء المضخة، وفرشته كله في مدار الرحى، وقفت عند الذراع الحديدية المثبتة بالثقب في منتصف الرحى، وأفكر، أتساءل، هل فعلتها من قبْل؟ هل درت بهذه قبل الآن؟ رأيت بداخلي امرأة ثمانينية تدور بهذه الرحى تحديدًا، ورأيت امرأة سبعينية تدور بها، وامرأة ستينية، وخمسينية، وأربيعينية، وثلاثينية، وكلهن يغنين مبتسمات!”138 هذه المرأة التي تؤمن أن نطْق وكتابة الموجودات والأماكن والمدن على الكرة الأرضية قد تعيدها ثانية إلى الوجود؛ تقول: “هل يمكنني فعلا أن أحفظ داخل رأسي مكان كل بلد ومدينة وقرية وبحر ونهر وشارع؟ لم لا؟ أنا أحمل ذاكرة كل البَشر.. كلهم بداخلي.”144
ينسِّق الروائي القسم الأول من النَّص، ويقسِّمه إلى فصول صغيرة، بعد كل فصل هناك عنوان متكرر لفصل صغير بعنوان “ابتسامة سهلة”، يليه أربعة أقسام أخرى، لا يتبع فيها هذا التقسيم.
تنساب اللغة السهلة في نصوص محمد الفخراني كأنها لغة تحنو على قارئها، حيث تتناوَل العالَم من نزعة للرومانسية، الرومانسية التي أقصدها هنا تتنافى مع ترهل المشاعر، أو سذاجتها، لكنها لغة تُعلي من إنسانية البَشر، تلعب على إذكاء الرُّقي والتسامح البَشري مع الآخرين والعالَم، تقول الأرضية – في نَص “حدَث في شارعي المفضَّل” – وهي تخاطب أخيها: “هل تعرف كم أحبك؟ ترسم لي صوت سريان الماء في باطن الأرض، وصوت جذور النباتات التي تشرب، وترسم لي صوت ملامسة نور القمر لأوراق الزرع، ولا أسأل أو أتعجب كيف يمكنك أن ترسم صوتًا، يا موهوب.”30