حين تَعشق قبْل أن تَرى؛ فأنت تسافر باحثًا عن البلد الذى سكَنَ وعيَك وذاكرتك طويلًا، حيث تعدَّدت زياراتك له مع كل كتاب ورواية، مع كل قصيدة وقصة وأغنية، يسكنك وتتنفَّس أنسَامه قبْل أن تهبط طائرتك على أرضه لأول مَرَّة، فلطالما رافق يومك وعطر صباحاته بشدو فيروز السماوى، قيثارة الشرق الأثيرية التى تقول: «لبيروت مِن قلبى سَلام، وقُبل للبحر والبيوت، لسهرة كأنها وجْه بحَّار قديم، هى من روح الشعب خمْر، هى من عَرَقه خبْز وياسمين، فكيف صار طعمها طعم نار ودخان».
تحبه وتشعر بخصوصيته حين تصدح ماجدة الرومى: «سِت الدنيا يا بيروت»، وتتبارَى صباح ووديع الصافى بشدو مواويل تراثه الغنائى، تشعر أنك جُبت شوارعه وضواحيه بخيالك، طُفت بمخيماته وجباله وسفوحه، مع (إيليا أبو ماضي) و(جبران خليل جبران) و(إلياس خوري) و(غادة السمان) و(رشيد الضعيف) والكثيرين، استمعت لمبدعيه ومثقَّفيه وإعلامييه، وناقشتهم فى مقاهى شارع الحمراء، استمتعت بجَمال طبيعته فى مجموعة من أجمل مَشاهِد السينما المصرية.
بمجرد أن تطأ قدماك أرض لبنان؛ تتلمس خُطى مفكريه وشعرائه وكُتَّابه، لتتردد فى ذاكرتك أبيات سعيد عقل فى وصْف لبنان حين يقول: لى صخرة علَقت بالنجم أسكنها/ طارت بها الكتُب قالت: تلك لبنان.
حالفنى الحظ فى سفرتى الأولى للبنان؛ حيث كانت لإلقاء ورقة نقدية ضمن تكريم الأكاديمى والروائى الكبير رشيد الضعيف، بدعوة من جمعية (فيحاؤنا)، وفيحاؤنا تجمُّع يربو على عَشْر جمعيات أدبية مَعنية بالثقافة والفنون، وهى مبادرة فعَّلها مثقَّفو لبنان بإرادة وإصرار؛ للاحتفال بطرابلس مدينة للثقافة العربية المحتَفَى بها هذا العام، حيث حَكَت لى د. زهيدة درويش عن سَعْى المثقَّفين وجمعيات المجتمع المدنى لسَد الفراغ، الذى تقاعَست عنه وزارة الثقافة فى لبنان، وإصرارهم على إقامة الفعاليات الفكرية والثقافية؛ لتَظَل لبنان مشِعة بمبدعيها ومثقَّفيها، ودون تخَلٍّ عن دورها الفنى والثقافى.
بعد الندوة سعدت بزيارة مدينة زاغرتا، بدعوة من عائلة الكاتب د. رشيد الضعيف، فحظَيت بصُحبتهم الممتعة، أنسى ولبيبة وموريس وبشرى وعبير وريتا، وكل قبيلته التى تعرَّفت عليها قبْل رؤيتهم فى رواياته، فى سيرته «ألواح» ونَصِّ «عزيزى السيد كواباتا». نقترب أكثر من المدن ونشم روائحها، ونتعرف عاداتِ أهْلِها من طقوس موائدهم وأصناف طعامهم، من حواراتهم، ومدى حميمية علاقاتهم، وملامح بيوتهم، وقْتها نتلْمس نبْض البَشر اليومى، وهو ما لا نشعر به فى الفنادق مهما طال بنا المقام.
فى الرحلة الصاعدة إلى الجبل من «زغارتا» إلى مدينة «إهدن» أجمل مصايف لبنان، طَلَبتُ – من د. رشيد الضعيف – مشاهدة مكان أحداث سيرة «ألواح»، وددت لو قارنت بين المكان الواقعى والروائى، وهناك لمست بعينَى كيف يلوِّن السردَ مادية الواقع، فى بيت العائلة الأثرى، غامت الفواصل بين الحقيقة والخيال، تبخَّرت، شعرت كأننى أخطو بين صفحات الرواية، أشاركهم أحداثهم التى وقعت منذ سبعين عامًا أو أكثر، خُيِّل إليَّ أننى لمحت طيفَ والدتهم ياسمين، من وراء إحدى النوافذ، كان أن أشار الكاتب إلى حارة صغيرة تُحاذِى بيتَهم القديمَ، وقال: «هنا كانت أمى تجلس كل يوم؛ لتغسل ثيابنا الملوَّثة بالشحم، هنا كنا نلعب، وهنا المطعم الذى حدَثت فيه واقعة إصابة أخى يوسف، وما ترتَّب عليه من بتْر رِجْله».
فى هذه المواقع شعرتُ أن الأدب مقاوَمة ناجزة للضياع والتلاشى، ودفعًا متعمَّدًا لعيش الإنسانية الرفيعة. مرَرْنا فى الطريق بطاحونة أثرية بجوار النهر؛ لتحتل فيروز الخلفية على الفور وتشدو: «كان عنَّا طاحونة عَ نبْع المَىّ»، تتفتَّح مسام الروح، وهى تشاهِد ما طربت له سنوات العمر، وتحلو الرحلة حين تمتد النقاشات الثرية، يقول د. رشيد الضعيف: حين تقارنين بين فيروز وأم كلثوم؛ تشعرين مع الأولى بتراتيل وأغانى الفلاحين والمُصَلِّين فى الضياع والحقول ودور العبادة، تلمسين الفطرة وطفولة المشاعر، فى حين يتبدَّى فى فن أم كلثوم نُضجُ المدينة، وتشابُك العلاقات بين الأحِبة وتعقُّدها، النضج الذى يتبدَّى فى الكلمات والألحان، حتى طريقة أدائها ووقْفتها ذاتها.
تنطلق فَراشاتك كلَّما صعدت لأعلى الجبل، وشاهدتَ الطبيعة بضِياعها المتدرِّجة؛ تتسع الجبال والتلال من حولك، وتتعدد الينابيع، ويأخذك هديرها المثير، وكلَّما صعدتَ وهَوَتْ عيناك إلى الأسفل؛ تعجَّبتَ وشعرت بالرهبة، حيث السفوح الممتلئة بالأنهار الصغيرة، وتجمُّعات البيوت البيضاء، بأسقُفها القرميدية الحمراء، الساكنة وسط الطبيعة بكل صعوبتها وتنوُّعها وثرائها، وتعدُّد عناصرها وأشجارها.
كنت كلَّما تأملتُ البيوت على مدرَّجات هذه الجبال، وكلَّما صعدت السيارة على هذه الطرُق المتعرِّجة، الضيقة والحادة، الصاعدة لأعلى من 1700 متر فوق سطح البحر؛ كلَّما داخَلنى العجب، كيف للإنسان تذليل هذه الطبيعة، وترويضها للسَّكن والزراعة والعيش، كيف عمَّر القساوسة الأوائل تلك الجبالَ والسفوح! وانتابتنى مشاعر متباينة بين الرهبة من الجبال الشاهقة، التى لم تَزَل الثلوج البيضاء تكسو قِممها، وهذا الغيم الرمادى الذى يحوطها، وتلك السماء القريبة الشاسعة فى منظر بديع.
المشهد الذى يدعوك لإقامة حوار مع هذا الوجود المنفتح على السماء، والمتَّصِل بها بشكل ما، فتشعر باتحادك مع هذا الكون، وتوزُّعك فى روح موجوداته، تتساءل بينك وبين ذاتك، كيف تآلَف كل هذا الغِنى الطبيعى، كيف تتدفق هذه الينابيع الهادرة من قلْب الصخور، كيف لشلالاتها أن تبدِع إيقاعَها الخاصَّ، ثم كيف لهذه الجبال أن تلِينَ إلى أن تصبح أنهارا صغيرة فى السفوح؛ ليتشكّل بساطًا أخضرَ يكسو المشهد جميعه، ويزداد هذا السحر حين تتبدى غابة الأرْزِ المقدَّسةُ، كيف استطاع الإنسان أن يروِّض هذه القسوةَ، ويتغلَّب عليها ويجلوها فى أبهى صوَرها.
حين سألَتنى المبدعة التشكيلية والكاتبة خيرات الزين عن انطباعى حول لبنان؛ أخبرتُها مباشَرة أنَّ أهَمَّ وأجمَل ما فى لبنان الإنسان، اللبنانى الذى تحدَّى الصعوباتِ، واستطاع ترويضَ هذه الطبيعة، وعمَّر هذه الجبالَ العالية والأودية السحيقةَ، العقول التى تأمَّلت هذا الكونَ الثريَّ، وتفاعَلت معه، وحدَّدت موقِعَها ضمْن منظومته، الإنسان متَّسِع الآفاق الذهنية، الذى انفتح على التعدد الدينى والثقافى، وتعَايَش معه.
كان ما رأيته فى متحف (جبران خليل جبران) بمدينة «مشرى» القريبة من «أهدن»، وهذه الطبيعة من وراء إجابتى، علاقتى بـ(جبران) بدأت منذ الثالثة عشْرة من عُمرى، حين شرعتُ أقرأ أعمالَه، وكنتُ كلَّما نضجتُ واتسعَتْ قراءاتى وثقافتى؛ أكتشف ما لم أستوعبه فى قراءاتى الأولى لهذا المبدع الكبير، اكتشفتُ فى متحفه، الذى يضُم مكتبتَه ولوحاتِه وبعضَ متعلَّقاته الشخصية ومقبرته، اكتشفتُ التشكيلىّ المفكِّرَ، الذى أبدع بالفُرشاة رؤيتَه الخاصةَ لهذا العالَم، فلقد أكملتْ لوحاتُه المعبِّرةُ ما كان يقوله بالكلمات، فوقها كثَّف العلاقاتِ المتداخِلةَ بين الإنسان وفِكرة الإله وتلك الطبيعة الهائلة التى عاش بين أرجائها، عاشَ هُنا؛ فكان انفتاحه على السماء، وتعلُّقه بغَيمها وقِممها الصخرية من وراء رؤيته الخاصة لقُدرات الإنسان، من وراء تبدُّد كل الأفكار الموروثة والجدل معها، تلاشت أمامه مع ذوبان ثلوج القِمم الشاهقة.
فى لوحاته تتبدَّى علاقته بالمرأة ومركزيتها فى رؤيته للحياة، وتتشكَّل رؤيته للكثير من أساطير الخلْق، فيخرُج من الجسد الإنسانى الواحد المحورى العديدُ من الأذرع والأقدام، فى إحدى اللوحات. وفى أخرى نُطالِع الرجُل والمرأة وخلْقًا جديدًا فى كتلة واحدة رغم تمايزها، الجسد المثالى فى مواجهة هذا الوجود، حين يطاوِل الغَيم الذى يكلِّل الجبال الشاهِقةَ.
وفى الكثير من لوحاته، لاحظتُ تعدُّدَ الأقنعة، وهو ما يشير لرؤيته للطبيعة الإنسانية ذات التناقضات المتعايشة والمتصارعة معا.
حين تخرُج من متحف جبران؛ تتساءل: هل الطبيعة والجغرافيا هى من تشكِّل البَشر وطبائعهم ورؤاهم للحياة، أم أن البَشر وحدهم من باستطاعتهم ترويض الطبيعة بكل صلَفها ورعونتها، تتساءل أيضًا عن ضرورة التعايُش ومدى ما نبذُل لنحققه؟!
يقول نزار موجِّهًا حديثه لبيروت: ماذا نتكلم يا بيروت.. وفى عينَيك خلاصة حُزن البشرية، وعلى نهدَيك المحترِقَين.. رماد الحرب الأهلية، ماذا نتكلم يا مروحة الصيف، يا وردته الجورية، من كان يفكر أن نتلاقى…، من كان يفكر أن تنمو للوردة آلاف الأنياب؟
دائمًا ما يلمس نزار وتَرَ الحقائق العارية؛ ففى الوجْه الآخَر لبعض مدن لبنان نلمس الحزن على الوجوه، وآثار الحرب وصراع الطوائف، نلحظ بؤس البعض والفوضى، تعجبت من سماء البلد الجميل، وهى مقطَّعة الأوصال، بشبكة لا تنتهى من أسلاك الكهرباء التى تشوِّهها؟ كيف تبدَّل الحال إلى هذا القُبح، عدا أكوام القمامة؟.
تحزن أيضا من زحام طرابلس، وفوضى الكورنيش وفقْره، يحكى اللبنانيون كم تغيَّرت المدينة بعد الحرب الأهلية، منذ ثمانينيات القرن الماضى، كيف ازدادت فوضاها حين عزَّت الاستثمارات بعد الحرب، وازداد الأمر سوءا بنزوح السوريين إليها.
فى بيروت تقف طويلا أمام المرفأ، ويتنازعك الحزن والأمل معًا، الحزن على لبنان، كيف ابتُلِيت بمَن يسرق حُريَّتَها وجَمالها وثراء تنوُّعها، من يجعل منها ساحة صراع ضمن ساحات لا دولة تمتلك تحديد سياساتها، من يضَعها فى مواجهة فُوَّهة مدْفع مشرَع دائمًا.
ليطفوَ الأمل حين تلمَح إصرار البَشر على محْوِ آثار الدمار والحرائق والموت، وأن يستبدلوا الخراب بالحياةَ والتشييد والإصرار على التحدى.