في مثل تلك الأيام المباركة، وتحديداً في يوم العاشر من رمضان من عام 1393، الموافق السادس من أكتوبر من عام 1973، وفي تمام الثانية ظهراً، بدأت القوات المسلحة المصرية والسورية هجومها، على الدفاعات الإسرائيلية، في الضفة الشرقية لقناة السويس، وفي الجولان، وتواردت أنباء الهجوم المشترك في جميع وسائل الإعلام، حتى تأكد صحة نبأ تلك العملية الهجومية. وعلى الفور، وفي العاصمة البلجيكية بروكسل، اجتمع ثلاثة صحفيين شباب، ممن تجمعهم صداقة وطيدة، وقرروا تغطية تلك الحرب، وتوثيقها، فيما بعد، في كتاب مشترك.
ودون تباطؤ، استصدروا تصاريح سفرهم، إلى تل أبيب، بعدما نجحوا في الحصول على الموافقات الأمنية والعسكرية من وزارة الدفاع الإسرائيلية، على أن ينطلقوا منها إلى ثلاث وجهات مختلفة؛ أولاها رئاسة الأركان الإسرائيلية، وثانيها الجبهة الإسرائيلية في سيناء، والأخيرة من القيادة الإسرائيلية في جبهة الجولان. وبعد حجز تذاكر الطيران، أسرع الثلاثة، إلى مطار بروكسل، ولحين حلول موعد إقلاع الطائرة، التي ستنقلهم إلى تل أبيب، جلس الثلاث صحفيين بكافيتريا المطار، وبدأوا التشاور حول الإطار العام لكتابهم، ليكون لهم هادياً ونبراساً عند رصد وتدوين مشاهد الحرب، تمهيداً لسردها وتوثيقها، فيما بعد.
فقرروا أن يوضحوا، في مقدمة الكتاب، اعتمادهم في جمع معلوماتهم عن حجم القوى العسكرية المشاركة في الحرب، على العدد رقم (115)، من الإصدار السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن International Institute for Strategic Studies (IISS)، والمعرف باسم “The Military Balance”، أو “ميزان القوى العسكرية”، الذي كان قد صدر، حينئذ، في يناير 1973، ذلك التقرير السنوي، الذي يُعد، حتى يومنا هذا، أقوى مصدر، على مستوى العالم، للبيانات العسكرية الموثقة.
وبنظرة بسيطة، حتى من غير المتخصصين في الشأن العسكري، على حجم القوات العسكرية الإسرائيلية والمصرية والسورية، والمقارنة بينهما، يظهر بوضوح التفوق الكمي، والنوعي، للجيش الإسرائيلي. فضلاً عن وجود المانع المائي، المتمثل في قناة السويس، على الجبهة المصرية، مما يجعل الهجوم على سيناء وتدمير خط بارليف مهمة مستحيلة. أما على الجبهة السورية، فقد كان الخندق المضاد للدبابات، الذي أقامه الجيش الإسرائيلي في دفاعاته في الجولان، سبباً كافياً لوقف أي محاولة سورية للهجوم.
كما أضافت مقدمة الكتاب، أن الصحفيين الثلاثة، أثناء لقائهم في مطار بروكسل، قد تناقشوا حول مقترح لاسم الكتاب، فكان “The Slay”، أو “الذبح” هو الاسم الذي اقترحوه، واستقروا عليه! وقد برروا هذا الاختيار، في مقدمة كتابهم، بأنه اعتمد على قوة الجيش الإسرائيلي، وتراكم خبراته … ذلك الجيش الذي انتصر على القوات المصرية في حرب الأيام الستة في يونيو 1967. وتوقع الصحفيون، أثناء تبادلهم أطراف الحديث، في مطار بروكسل، أن القوات الإسرائيلية ستقوم، هذه المرة، “بذبح” القوى العسكرية العربية، لإجبار مصر وسوريا على الرضوخ لمطالب إسرائيل … وأن القتال لن يتوقف إلا بعد الاستسلام الكامل من مصر وسوريا.
وأقلعت الطائرة إلى تل أبيب، ومنها تفرق الصحفيون الثلاثة، كل إلى وجهته، وفق ما أتفق عليه؛ أحدهم إلى رئاسة الأركان الإسرائيلية، والثاني إلى الجولان، والثالث إلى سيناء. كان من أهم ما تناوله الكتاب، فيما بعد، هي تلك الفصول التي وثقها الصحفي الأول، الذي كان شاهداً عيان، على صدمة، وذهول، الإسرائيليون من براعة التخطيط المصري، ومن تدفق القوات المصرية عبر قناة السويس، وسقوط خط بارليف “المنيع”، واستسلام أفراد القوات الإسرائيلية. وقد رصد الصحفي الحسرة الإسرائيلية من تواتر الهجوم المصري، من تعليق أحد القادة الإسرائيليون، في مركز العمليات، بقوله “إن المصريين يشبهون جيوش النمل … التي تخترق أي موانع، ولا تستطيع إيقافها، أو التصدي لها”.
كما وثق هذا الصحفي دموع الحسرة في عيون جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، ووزير دفاعها موشى ديان، يوم التاسع من أكتوبر، بعد أربعة أيام من بدء القتال، عندما أعلنا هزيمة إسرائيل في مؤتمر صحفي شهير، تم التكتم عليه، بعدما قررت الولايات المتحدة الأمريكية مد جسر جوي لدعم إسرائيل عسكرياً، فكانت الطائرات الأمريكية، من طراز C5، تهبط على مدار اليوم، في مطار العريش، حاملة على متنها أحدث أنواع المعدات والأسلحة، لنجدة القوات الإسرائيلية … لكن دون جدوى!
وصدر الكتاب، بعد الحرب، مباشرة، ولكنه حمل اسماً مختلفاً، تماماً، ليليق بحقائق حرب أكتوبر 73، وما دار فيها، فكان عنوانه “The Nightmare”، أي “الكابوس”، بديلاً عما كان مقرراً له من أن يكون “The Slay”، أو “الذبح”، ليعكس آلام ومرارة ما مرت به إسرائيل، التي عاشت في تلك الحرب، كابوساً حقيقياً، لم ولن تنسى تفاصيله، يوماً!
وبعد 50 عاماً من النصر، تلقيت اتصالاً من صحفي أجنبي، يبلغني فيه بوجوده في مصر، في إطار استعداده لإصدار كتاب، بمناسبة مرور 50 عاماً على حرب أكتوبر، مضيفاً أنه حصل على رقمي من صديقه محمد أنور السادات، الذي رشحني للحديث معه عنها، باعتباري شاهد عيان عليها، وذلك أثناء زيارة الصحفي لمنزل الرئيس الراحل أنور السادات، في ميت أبو الكوم. ووصل الصحفي، بالفعل، إلى مكتبي، في الموعد المتفق عليه، وبعد ساعتين من الحديث عن حرب أكتوبر 73، وقبيل مغادرته للحاق بموعد طائرته، وعدني بنسخة من كتابه، فور الانتهاء منه، والذي سيحمل عنوان “50 عاماً بعد الكابوس”، لأتفاجأ بأن الرجل، الذي خط الشيب رأسه، هو أحد الصحفيين الثلاث، الذين أصدروا، من قبل، كتاب “الكابوس”!