لواء دكتور/ سمير فرج يكتب..وتحققت مطالب مقالاتي في الأهرام
لمدة ست سنوات، وفي نفس هذا المكان، كتبت أكثر من مقال، في كل صيف، عن إهدار الساحل الشمالي المصري، بدءاً من مقالي الأول يوم الخميس، 7 سبتمبر من عام 2017، بعنوان “إمبراطورية الساحل الشمالي خسرتنا المليارات”، وتوالت بعدها المقالات، في كل عام، حتى مقالي الأخير، يوم الخميس 17 اغسطس 2023، بعنوان “حوار خليجي على الساحل الشمالي”. حتى جاء الإعلان عن الصفقة الاستثمارية التاريخية، بين مصر والتحالف الإماراتي، لتنمية منطقة رأس الحكمة، ليفتح الباب لعهد جديد من الاستثمار، في منطقة الساحل الشمالي، بفكر جديد، لو تبنيناه منذ عقود مضت، لكنا اليوم في موضع آخر.
ترجع القصة إلى ثلاث سنوات، قضيتها في العاصمة التركية، أنقرة، ملحقاً عسكرياً لمصر إليها، وكنت استغل عطلات نهاية الأسبوع، آنذاك، لأنطلق بسيارتي على طريق رائع، يشبه الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية، في صورته الحالية، بطول 350 كيلو متراً، من أنقرة إلى الساحل التركي، حتى أنطاليا. وهناك يمتد الشريط الساحلي لنحو 300 كيلو متر بداية من أنطاليا في غرب تركيا حتى الساحل الشمالي في إسطنبول، تتوسطه بعض المدن السياحية مثل بودروم، التي استلهمت ألوانها، لاحقاً، في الأقصر عندما كنت محافظاً لها، ومثل مارماريز، التي هي النسخة، طبق الأصل، من شرم الشيخ.
ومثلما نطلق على سواحلنا المصرية على البحر المتوسط اسم “الساحل الشمالي”، فإن الأتراك يطلقون على سواحلهم، المقابلة لنا، اسم “ساحل أنطاليا”، نسبة إلى المدينة التي تبدأ عندها المنطقة الساحلية. إلا أنه سمة فرق جوهري بين ساحلنا الشمالي، وساحلهم التركي، إذ يستقبلون إليه ما لا يقل عن 18 مليون سائح سنوياً، بينما نتبارى نحن في صف قرى أسمنتية، واحدة تلو الأخرى، لاستقبال العائلات المصرية لمدد لا تتجاوز أربعة أسابيع، في المتوسط، من كل عام، ونترك تلك الكتل الخرسانية معطلة باقي شهور العام، ومغلقة “بالضبة والمفتاح”!
فبينما يساهم ساحل أنطاليا بما يقرب من 20 مليار دولار سنوياً في دخل تركيا القومي، تجد ساحلنا الشمالي يستنزف موارد المصريين، محدثاً فقاعة في أسعار الوحدات السكنية ومواد البناء، دونما أدنى مساهمة في الدخل القومي. وأقسم بالله، قسماً أنا مسئول عنه أمامه، أن السائحين الوافدون، بتلك الأعداد، إلى ساحل أنطاليا، لا تجد منهم من يبتل جسده بمياهه، مكتفين باستخدام حمامات السباحة، نظراً لأن الشواطئ صخرية، ومياه البحر داكنة، تكاد تكون سوداء، بالرغم من أنها سواحل ذات البحر الأبيض المتوسط، التي أنعم الله علينا فيها بساحل شمالي مصري، تبهر عينيك نعومة رماله الناصعة، وتخلب عقلك زرقة مياهه الصافية، التي لم تتلوث بمياه الصرف الصحي.
أتعلم، عزيزي القارئ، لماذا يتخذ السائح، خاصة الأوروبي، من ساحل أنطاليا وجهة له، وليس الساحل الشمالي؟ الإجابة ببساطة أن ساحل أنطاليا خُطط وصُمم، من البداية، ليكون وجهة سياحية عالمية، فاتحدت الجهود لتنفيذ تلك الرؤية عن طريق تشييد عدد من القرى السياحية، المُجهزة بالفنادق والوحدات المُعدة للإيجار، وتم ربط تلك القرى بطريق حر، مثل ذلك الذي تم تنفيذه في مصر، مؤخراً. ولم تكتف الحكومة التركية بذلك، بل وفرت للسائحين الفرصة للاستمتاع بإجازاتهم السنوية من ناحية، ومن ناحية أخرى ضمنت عائداً أكبر من هذه السياحة الوافدة إليها، عن طريق الرواج الاقتصادي، فأنشأت مناطق تجارية بين القرى السياحية، أغلبها في الظهير الجبلي، بها العديد من المحال لبيع الفضة، والسجاد، والألماس، وملابس التراث التركي، ثم محال الطعام، كل ذلك بتصميم يوفر للسائح تجربة متكاملة، قد يقضى فيها يوماً أو أيام كاملة. فمثلاً يدخل مبنى الفضة، فيشهد في الدور الأرضي ورش تصنيع الحلي، بمختلف أنواعه، وفى الأدوار الأعلى يجد صالات عرض المنتجات الفضية الجاهزة للبيع، والكتالوجات الخاصة بالمحال لاختيار أي تصميم منها، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل قد يطلب السائح تصميماً خاصاً به، فيتم تصنيعه له، وإرساله إلى محل إقامته، سواء في أثناء أجازته في تركيا، أو حتى بعدها في موطنه.
ونفس الشيء بالنسبة للملابس التركية، والسجاد التركي الأشهر في العالم، مثل السجاد الهيركا، أو حتى في الألماس، الذي يسيطر على صناعته وتجارته الأرمن. ولضمان استمتاع السائح، يتخلل تلك المباني محال الأطعمة التركية الشهيرة مثل الدونير، والمسقعة والضُلمة، ليقضى يومه براحة وانسيابية. يضاف إلى الرؤية الشاملة، خصائص الشعب التركي المعروف بالانضباط، والنظافة، والإخلاص، والتفاني في العمل، بل والإبداع فيه، فتجدهم يتقنون لغات الدول التي يفد منها السياح إليهم، خاصة الدول الإسكندنافية، مما عزز من وجود ساحل أنطاليا على خريطة السياحة العالمية.
وكنت أعود إلى مصر، وأنظر حولي فأجد أجمل سواحل في الدنيا، وأصفى مياه، تتخللها خلجان هادئة لا تعلوها موجة واحدة، ويحيطها مطارات جاهزة للتطوير، لاستقبال أكثر من 10 ملايين سائح سنوياً، سواء مطار برج العرب، أو العلمين، أو مطار مطروح، وحتى مطار سيدي براني، فأتسأل وقد أصابتني حالة من الضيق، لماذا لا أرى سائحاً واحداً حولي، ولا حتى في القرى المجاورة، بالرغم من تميز سواحلنا مقارنة بتركيا، وتفوقنا في جودة الصناعات اليدوية المتنوعة.
وأخيراً اتجهت البوصلة إلى أهمية الساحل الشمالي المصري، وما يمكن أن يحققه لمصر على الصعيدين الاقتصادي والسياحي، فكان الإعلان عن مشروع رأس الحكمة، الذي يعد مشروعاً متكاملاً لتنمية الساحل الشمالي من رأس الحكمة حتى هضبة السلوم، أجمل بقاع الدنيا على البحر المتوسط.
Email: [email protected]