ماريان نعيم تكتب.. روحٌ لم تمت ( قصة قصيرة)
في ذلك اليوم فتحت ندى عينيها بصعوبة لتستقبل أول بصيص نور تراه بعينيها الصغيرة، لم يكن الأمر بتلك السهولة التي نفعلها اليوم، فكم من الرائع أن تفتح عنيك بعد ظلام دام لأكثر من تسعة أشهر تتأهل فيها لتولد وتكون إنسان كامل يسير على الأرض ….كم إحتملت من مشقة يعرف خالقك فيها فقط معاناتك أنت ومن أنجبتك لكي تكون هذه الحياة لك….فتحت ندى عيونها لأول مرة بعد ولادتها المتعثرة، لتجد نفسها بين ذراعي أمها التي راحت تتأملها بحب ولهفة تقرأ أسرارعيونها السود بأمل يملأ الأرض لمستقبل مشرق .لم يكن الامر سهلاً البتة لكنها تعلمت وبسرعة لتتعرف بأول صورة لها في هذه الحياة والدتها….وإذ بها تتنقل بين ذراعي الجميع هذا والدها وهذه جدتها أعمامها وأخوالها جيرانها وأصدقاء عائلتها وأخيها مجد، وهمسات أصواتهم الحنونة وهم يذكرون اسم الله في كل مرة يحملونها لتتعرف معهم على اولى المشاعر التي لن تشعر بها سوى بينهم بين اهلها واجدادها على أرضها دفء وطنها .كبرت ندى وعرفت من تكون، اضحت تلعب وتلهو، تتعلم وتكبر، تصلي وتساعد …كبرت على حكاوي جدتها عن مجد أجدادها وعن بطولاتهم ، كان الأمر ممتعا بالنسبة لها وهي ترى أن الحياة في إنتظارها لكن لم تعلم الفتاة ذات الستة أعوام أنها على موعد مع درس هو الأقسى بين الدروس بين كل ما تعلمته وما ستتعلمه .
خرجت ندى لتلهو كعادتها بين اشجار الزيتون ومعها اخيها الأكبر مجد، ظل يلعبان سويا، يركضان هنا وهناك يقطفان شىء من هذا وتلك الطقس اليوم صحو وصوت الطيور مريح الأمر الذي جعل الجوع يداهم بطونهم الصغيرة، فتوقفت ندى عن اللعب وأخبرت أخيها، الذي كان بشهامة جده الكبير فلم يترك أخته تشعر بألم الجوع ولو لحظة أخرى وطلب منها أن تنظره قليلاً سيعود للمنزل ليأتي بشىء…. وقفت تراقبه من بعيد الى أن دخل البيت، فجلست تحت الشجرة في إنتظار ظهوره مرة أخرى ليعود إليها…راحت تلعب لعبتها الذي علمها اياها حين كان يخبأها في بعض الأحيان في مكان أمن ويخرج هو وهي تسأله من داخل …أأنتهى الأمر فيجيبها ليس بعد….راحت تتمتم أأنتهى الأمر فترفع عيونها وتجده لم يظهر بعد …فترد على نفسها ليس بعد تبعد عيونها إلى الأرض وتعيد كلماتها…أأنتهى الأمر، وترفعها مرة اخرى لتجده لم يظهر بعد. وفجأة ودون سابق إنذار إذ بصوت إعتادت سماعه حين كان يطلب منها مجد الإختباء، صوت لم تعرف يوم ماهيته لكنه دائما كاد يوقف نبضات قلبها الصغير لولا صوت مجد….لكن هذه المرة لم يكن مثل ذي قبل …لم يكن خافتاً بل مرتفعا عاليا بل يكاد يصم الآذن وظل الصوت يقترب يقترب إلى ان مر فوقها وسقط أرضا محدثا دويا رهيباً ارجف أوصالها وجعلها تنكمش بين ذراعيها في رعب .مرت الدقائق وفتحت ندى عيونها مرة أخرى لكن هذه المرة لم تجد من يحبونها حولها لا أمها ولا والدها ولا حتى جدتها….ولا مجد، إلتفت من بعيد نحو منزلها منتظرة ان يعود مجد إليها كما اعتادت لكن هذه المرة لم يآت تجمدت عيونها حين رأت بيتها تراب على الأرض ودون أن تعي إذ بها تركض نحوه وهي تتمتم ليس بعد ليس بعد ليس بعد إلى أن وصلت ووجدت ذراع مجد فقط الظاهرة من بين ركام المنزل ممسكة بقطعة الخبز، أمسكت بها ندى وراحت تبكي وتصرخ ليس بعد يامجد …ليس بعد…لم ينته عمرك الصغير بعد…لن يمحى اسمك بعد….لن أصدق يوما أنك ذهبت بل سأكمل أنا ما بدأت….وسيعرف العالم أنك سوف تعود ….وأن الأمر أبداً لم ينته بعد