الأستاذ عبدالرؤوف منصور يوسف الطباخ ((سيرة ومسيرة))
بقلم راجي عفو ربه د. أبو وهاد الشربيني
____________________
قبيل ثورة ١٩١٩م بأربعة أعوام ولد الشيخ الجليل والفارس اللغوي النبيل الشيخ عبد الرؤوف الطباخ إذكان مولده تقريبًا في غرة عام ١٩١٥ ولقد حفظ القرآن في سن صغيرة على يد فقهاء آل بحيري ثم يمم وجهته إلى المعهد الأزهري لينال بعدها الشهادة الثانوية الأزهرية ثم أمضى شطرًا من شبابه في تحصيل علوم اللغة العربية وإتقان فنونها ؛ مما خوله للعمل في مجال التدريس وكانت أولى محطات تعيينه في جنوب مصر حيث مركز (دراو) التابع لمحافظة أسوان وكانت( دراو) وقت أن وطأتها قدم أستاذنا قرية نائية عن الحضارة قاصية وقبيل غروب شمس الملكية سرعان ما أنشئت الوحدة المحلية بها عام ١٩٤٥م وكانت تسمى قبل ذلك باسم بلدية (دراو) التي تم تحويلها فيما بعد إلى مدينة ثم صارت مركزًاو خلال تلك الفترة تزوج أستاذنا من شقيقة الحاج محمودالهادي أبو ديب وأنجب منها ولده المرحوم الأستاذ ممدوح – رحمه الله- وابنته الحاجة فتحية شفاها الله.
وقد اصطحب المعلم الشاب نجل أخته الأستاذ منصور عبادة – رحمه الله-في رحلته الجنوبية وكان وقتها تلميذًا في طور الصبا كي يتعلم في مدرسة (دراو) الابتدائية ولم يطل مكثهما في كنف أسوان، فقد صدر قرارٌ عام ١٩٤٨م يقضي بانتقال أستاذنا للشمال حيث محافظته الندية، الشرقية وقد تعهد نجل أخته الأستاذ منصور بالمشورة والنصيحةالمأثورة فأوصاه بأن يلتحق بمدرسة المعلمين العليا بالمنصورة عام١٩٤٩م، فيمم وجهته إليها مع رهط من أبناء صافوراء يتقدمهم الأستاذ عبد الفتاح بحبح-حفظه الله-حيث تخرجا في مدرسة المعلمين بعد ست سنوات ليبدأ الصديقان رحلة كفاحهما التربوي قبيل عامٍ من العدوان الثلاثي أما الخال عبدالرؤوف فعمل مدرساً ابتدائياً بمدرسة صافور الابتدائية رقم ٢(البرعي حالياً) حيث كان يدرس سائر المواد لطلبة الصفوف الأولى كاللغة العربية والحساب والتربية الإسلامية وكان مدير المدرسة آنذاك هو الأستاذ محمد البحراوي القادم من قرية (سنتماي) إحدى قرى مركز ميت غمر ذلك الرجل الحازم شديد الشكيمة نعم ديدنه الانضباط والدقة ومع ذلك لم يخلُ قلبه من رحمة ورقة؛ فلم تتصحر أسارير وجهه يوماً من البشر والبسمة، وظل الشيخ عبد الرؤوف أنيساً لناظره محباً للعمل في كنفه منذ عام ١٩٤٩ حتى مجئ الشيخ أحمد الإمام الذي تولى النظارة من بعد البحراوي ردحاً من الزمن وفي منتصف الستينيات تم تخصيص قسم تعليمي ببندر ديرب نجم يضاهي الإدارة التعليمية بمفهومها المعاصر هنالك انتدب الشيخ عبد الرؤوف للعمل كسكرتير للتعليم الابتدائي ثم تدرج بها ليعمل سكرتيرًا بقسم الأعمال الإدارية بالقسم التعليمي.
ولعل سر انتقاله للعمل بالإدارة التعليمية مرجعه إلى الأب الروحي للتعليم في صافوراء وأكنافها فقد كان وقتها الشيخ الجليل أحمد الباز يعمل كموجه قسم بديرب ثم ما لبث أن تولى منصب مدير الإدارة التعليمية حيث عهد إليه بمراقبة العملية التعليمية لسائر مدارس ديرب نجم وقراها.
ولما عاين عملاقنا الباز في جاره الأستاذ حزماًوانضباطاً لامثيل لهما في سائر موظفي القسم توسم من خلالهما أمارات نجاحه وتباشير فلاحه ، استخلصه لجده و اصطفاه لنبله، فجعله سكرتيرًا للتعليم الابتدائي وقد اضطلع الرجل بمهامه على الطريقة المثلى كما ينبغي أن تكون وظل على نزاهته ووقاره حتى استوت رحلة كفاحه التربوي وكده الوظيفي على جودي المعاش في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، لكنه ظل مواظباً على زيارة رفاق دربه؛ فلم يتوان عن الإدلاء بوقته وخالص جهده وصائب رأيه تجاه صافوراء ومشاريعها الخيرية ومؤسساتها الاجتماعية صنوه في ذلك المسلك المحمودة مقاصده، المنشورة محامده أستاذه الروحي الألمعي الأزهري التقي الندي الشيخ الباز حتى وافته منيته مطلع الثمانينيات بعد مرض قصير ألم به ففاضت روحه الطاهرة وهو يتمتم بسورة يس وقضى نحبه بين يدي ولده الأثير المغفور الله – بإذن الله- الأستاذ ممدوح عبد الرؤوف-رحمه الله- وكم كانت جنازته الحاشدة دليلاً على حب الناس ومدى إجلالهم لشيخهم الذي علمهم وأرشدهم في طور الطفولة تحت سيقفة صافور الابتدائية فموكب الجنازة المهيب مرآه الرحيب مسعاه كان يتقدمه الشيخ الباز-رحمه الله- ولفيف من رجالات التربية والتعليم وجموع غفيرة من الوجهاء والنظار والشيوخ الأطهار ورجالات الفكر والأدب الأخيار ناهيك عن المئات من المعزين الذين أتوا من كل حدب وصوب من شتى القرى والكفور المصاقبة لصافور من أجل توديع أستاذهم الجليل وشيخهم النبيل ولم لا وقد اتصف شيخنا بعدة صفات جعلته من العلماء الثقات؟! أبرزها مايلي:
١-التقى والورع فقد كان الشيخ حافظاً لكتاب الله واعياً لأحكام تلاوته لايتوانى عن الذكر والدعاء صباح مساء فكم حوقل وحمدل وسبحل وهيلل، شكرًا لله. كما كان الرجل صوفياً معتدلاً يغشى مجالس الذكر ويقرأ الأوراد المعهودة في مجالس منشودة مع رفقة محمودة يتوسطهم الشيخ الباز وسائر أقطاب الطريقة الحصافية بالبلدة.
٢-النزاهة وحسن الهندام فأما نزاهته المعنوية فكانت آماراتها حاضرة بكل واد يعرفها الأساتذة والأولاد فكم كان يتعفف عن المطامع الدنيوية ولم يلهث يوماً وراء الدروس الخصوصية التي كانت قد بدأت تلوح على استحياء بين ظهراني الطلبة المقتدرين أبناء التجار والوجهاء الميسورين وما أقلهم في هذا الزمن!!
وقد شكى أحدهم وهو الشيخ اللبان – رحمه الله- من أن طالباً من أبناء القرية كان والده ميسور الحال ذا تجارة رابحة وبحبوحة عيش واضحة فاستدعاه كيما يعلم ولده قواعد اللغة والحساب حتى يظفر بشهادة تعينه على الكسب والتجارة فيجد فيه سندًا معينا ويكون له عضدًا أمينا لكن الولد كان كثير التملص والإباق والكذب والاختلاق يتصنع الحجج الواهية ويتفنن في نسج قصص ملهية من أجل الهروب من شيخه اللبان لكنه شيئاَ فشيئاً ألفيناه قد تحول عن سياسة التملص والتطنيش إلى الخديعة والمكيدة ثم التطفيش وآية ذلك أنه تحين فرصة خلو البيت من أمه وأبيه ذات ثلاثاء فاستمال شيخه الطيب وهمس في أذنيه قائلاً:دعنا ياأستاذنا الشيخ من درس الحساب وغرائب النحو والإعراب وهيا بنا إلى سطح منزلنا حيث سترى العجب العجاب…فتلهف الشيخ لمعرفة السبب فأجابه بصوت خفيض :”إن سر رواج تجارتنا أن لدينا أمرًا في غاية العجب ففي حظيرة الطابق العلوي دجاجة تبيض كل يوم بيضتين من الذهب فهلم ياشيخي وخذ حصة اليوم بلاتعب شريطة أن تقرأ على الدجاجة المعوذتين ساعتها ستنال البيضتين “
ثم صعد التلميذ الشقي بشيخه الندي واستاقه من يده واحتال في إقناعه كي يدخل الحظيرة وأشاربيده إلى دجاجة كسيرة وما أن دلف شيخه المسكين إلى الشَّرك اللعين حتى أطبق عليه الكمين فأغلق الباب بالمفتاح وغادر السطح بكل انشكاح وارتياح ولم تجدِ توسلات الوقور المغدور أمام عته هذا الصبي المغرور… ومرت ساعة وساعة وقبيل المغرب صعدت والدته لتفقد دواجنها لكنها هبطت على الفور مرتاعة فقد رأت شبحاً أسود يجثم وسط الطيور هنالك صعد زوجها التاجر المشهور ليمسك بلص الحظيرة وفي نفسه نية خطيرة بأن يسقيه ليلة مريرة لكن سرعان ماسقط في يده إذ وجده الأستاذ المسكين قد أُغلِقَ عليه الباب وضاقت به الرحاب جراء قفل متين فأدرك لحظتها مكيدة ولده المُشين، فاعتزر للشيخ الذي خرج من بين الطيور في خجل بقلب وجل وقد علق الريش بجبته وعبث الحمام بعمامته، فشكى للتاجر الصارم عبث ولده وقبيح كيده وطيشه وأقسم بعدها بأغلظ الأيمان ألا يطأ هذا البيت فولده لن تفلح معه كيت وكيت و لعل وليت!! وهكذا لم تجد معه توسلات تاجر الزيت؛ ومن ثم كان هذا الموقف رادعاً للشيخ ذي الحلة الأزهرية والموهبة الخطابية والفصاحة اللغوية ألا يعود – إلى الأبد- للدروس الخصوصية .
ساعتها قال الأستاذ عبد الرؤوف مقولته الشهيرة:”إذا استباحت نفس الأستاذ أن يمد يديه آخر كل شهر لطلبته فلا تتعجبن مما قد يقع بكرامته ويذهب بمروءته و يحيق بجليل منزلته”.
أما حسياً فقدكان الرجل أنيقاً فى ملبسه، منمقاً في مطعمه يظهر عليه مخايل حسن الهندام ووجاهة الموسرين العظام؛ فكان يرتدي البِذْلة أي الحلة بالمعنى العصري حيث المعطف والبنطال ورابطة العنق ومعطف الوسط(الصدرة) والطربوش العثماني طوال فترتي الأربعينيات وأوائل الستينيات وكان لايذهب لعمله حاسر الرأس؛ إذ لكل مقام هندامه المناسب، فللمدرسة حُلتها وللصلاة جبتها وللمنزل جلبابه وللعزاء وقاره وثيابه.
كما كان إذا مشى يتطيب بأذكى العطور رائحةً حتى أن الماكث في منزله يستطيع أن يجزم بمرور الشيخ وسيره في الشارع أو الزقاق من فرط قوة عطره المعهودة روعته العبقة رائحته التي تشتمها من مبدأ منزله حتى كوبري الغول وكم كان بعض الظرفاء يسيرون خلفه في مسعاه إلى العمل متتبعين خطاه كي يشتموا رائحته العطرة التي تنبعث من بين ثنايا حلته النضرة وكم سأله غير واحد عن اسم العطر الذي يتطيب به وعن ثمنه لكنهم إذا نسوا اسمه الأعجمي ما كانوا لينسوا ثمنه الباهظ حيث كان الشيخ يبتاع ماركات عالمية من أجود العطورويضعها بنظام؛ وفق المناسبات والزيارات.
ولما سئل الشيخ النزيه الأنيق الوجيه عن سبب إنفاقه ببذخ في سبيل ابتياع أجود العطور كان دوماً يذكرهم بقول الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- : “لو أنفق الإنسان ثلث ماله على الطِيب ما كان مسرفًا”..
وقول الخليفة عُمر بن الخطاب «لو كنتُ تاجرًا لما أخترتُ على العطر شيئًا ، إن فاتني ربحهُ لم يفُتني ريحهُ».
وأرى أن الرجل كان محقاً في مسلكه حكيماً في ديدنه ولله در ابن القيم حين قال: “الطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى ، والقوى تتضاعف و تزيد بالطيب كما تزيد بـ الغذاء و الشراب و الدعة و السرور و مُعاشرة الأحبة ، وحدوث الأمور المحبوبة”.لذلك كان السلف يعذرون من أنفق كثيرًا من ماله على العطر ، ويعذرون من أَدمن حُب الريح الطيب ،ويعذرون من أحب أُناسًا من حُسن عِطرهم وحسن خُلقهم.
٣-الروح الوطنية فقد كان الرجل محباً لمصر تاريخها وحضارتها وأعلامها وزعمائها منتهى المحبة وآية ذلك أنه كان إبان مقامه بأسوان كثير التردد على زيارة المعالم الأثرية بكوم أمبو كمعبدها ومتحف التمساح ومنطقة السلسلة غرب ومنطقة الحوش ووادي شطب والشبيكة ونجع الحجر وكان يصطحب معه نجل أخته الأستاذ منصور في رحلاته الأثرية لتلكم المعالم التاريخية وقد انعكس ذلك على مرجعيته الفكرية وسليقته التربوية حيث كان يذكر تلاميذه بتلك المعالم التي لم يسمعوا عنها من قبل في كتبهم الأولية ولم يشاهدوها قط في خمسينيات القرن المنصرم إذ لم يكن التلفاز قد عرف طريقه إلى مصر آنذاك ولم تتسلل أجهزته فيما بعد إلى بيوتات قريتنا إلا في أواخر الستينيات.
كما كان الرجل ذو عقلية واعية لمقتضيات المرحلة الجديدة عقب ثورة يوليو فكم تأثر بالفكر الاشتراكي والمد الثوري ومقاصد الوحدة بين مصر وسوريا وكم آلمه مؤامرة العدوان الثلاثي الغاشم وأمضته نكسة يونيو ثم كانت الطامة الكبرى بموت الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي تألم لموته غاية الألم؛ فكان ممن شاركوا في تنظيم جنازة رمزية للزعيم الراحل بصافوراء حيث طافت شوارع القرية يتقدمها العمدة وسائر كبار البلدة من ذوي العمائم والوجهاء و الموظفين و رجالات التعليم وجمع غفير من الفعلة والفلاحين و طلبة مدارس القرية أجمعين.
وفي حرب أكتوبر المجيدة كان الرجل يفتح منظرة منزله لاستقبال الجيران والأصدقاء صباح مساء ممن شغفوا بسماع البيانات العسكرية المتتالية؛ للوقوف على سير المعركة مستبشرين بالنصر المؤزر وكان الجميع عقب كل بيان وآخر يحمدون الله ويكبرون.
حيث كان الحاج أحمد الباز والعمدة عبد الفتاح الديب والحاج حافظ هلال أوائل من اقتنوا التلفاز المصري ذي الشاشة ثنائية اللون المصنعة في شركة(نصر) أما شيخنا فاقتنى جهاز التلفاز مطلع السبعينيات وكم كان بيته يعج بأفواج من الزوار والقصاد والجيران والخلان لمشاهدة برامج ماسبيرو ضئيلة المونتاج والشاشات ثرية المعارف و المعلومات
كما كان شيخنا الوطني يبتاع كافة الصحف من الحاجة (توحيدة) التي كانت تهبط القرية يومياً لبيع الصحف والمجلات فيقرأها على أهله وزملائه ومريديه من الطلبة والموظفين وكان شيخنا يتوسط مجلسهم في وقار وتواضع بجلبابه الزهري وطاقيته الناصعة البياض وكأنه زعيم شعبي يتوسط جمعه الأبي.
٤-الوفاء لأصدقائه وأترابه فقد كان وفياً لزملاء عمله ورفاق دربه يزورهم في منشطهم ويعودهم في وعكتهم أمثال الأستاذ أحمد خاطر والأستاذ علي حسن فياض والشيخ أحمد عبده خاطر والشيخ سيد أحمد اللبان والأستاذ محمود شعراوي رحمهم الله أجمعين.
ولم تقتصر صداقاته على بني جلدته من أبناء بلدته حيث كان يعمل معهم لفيف من المعلمين الغرباء عن صافوراء الذين عينوا بها مطلع الخمسبنيات وكان جلهم من (دقادوس) و(أوليلة) و(أتميدة) و(سنتماي) وكم كان الرجل يصلهم ويتفقدهم من حين لآخر، فلا يترك مناسبة اجتماعية أودعوة أخوية إلا وتراه قد أجاب نداءها؛ وفاءً لعهد الزمالة وأحكام الصداقة.
٥-الحس الأدبي والفني فكم كان يطرب لسماع الشعر العربي الغنائي لاسيما القصائد التي شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم وكان الرجل يشدو دوماً بأبيات نهج البردة وقصيدة سلو قلبي والهمزية النبوية كما كان شديد الولع بقراءة عيون التراث العربي لاسيما كتاب كليلة ودمنة الذي طالما تمثل بقصصه ودروسه الأخلاقية وحكمة الفلسفية أمام تلاميذه سواء في الصف كما كان مولعاً بكتابات العقاد لاسيما العبقريات وكم ناقش أقرانه في فرائدها اللغوية وأساليبها البلاغية في أوقات السمر عند زيارات الأصدقاء والأخلاء.
٦-حبه للرياضة فقد كان في شرخ شبابه فتياً قوياً معتدل القامة عظيم الهامة ممتلئ الصدر قوي الساعد مما ينبئ عن مولد رياضي واعد فقد كان ماهرًا في رياضة العدو لمسافات طويلة إذا ركض في سباق بز أقرانه حتى تخاله العداء الأمريكي مايكل جونسون
ففي شرخ شبابه عاد متأخرًا من القاهرة برفقة زميلين أحدهما الشيخ عبد السلام العطار في وقت ندر فيه وجود بصيص ضوء ينبعث من كشاف إحدى السيارات في هذا الوقت المتأخر خاصة في تلكم الطريق الترابية الملاصقة للمصرف الكبير والتي لم ترصف إلا في منتصف السبعينيات فتراهن الثلاثة على الركض إلى صافوراء عدوًا وكان مبتدأ التسابق من كوبري برمكيم المؤدي إلى مدخل صافوراء مرورًا بقرى الجواشنة وديرب السوق وأبي بري وما أن أطلق الثلاثة سيقانهم للريح حتى انطلق الشاب اليافع الأستاذ عبد الرؤوف كالفرس الجموح؛ فنظر خلفه فإذا يجد الحاج عبد السلام قد أجهده العدو فسقط من فرط التعب، هنالك أسرع الشيخ عبد الرؤوف بحسه الوريف فحمل صديقه النحيف على كتفه الأيمن مواصلاً عدوه غير عابئ بما واجهه عبر طريقه من عقابيل ثلاثة :الظلمة والضباب وما يتخللهما من نباح الكلاب ووعثاء الغبار والتراب حتى تخطى غريمه الثالث وظل على تقدمه ذلك حتى مشارف صافوراء حيث كوبري أبي عزب هنالك توقف السباق وسار الرفاق وكم كان المنظر مثيرًا للفكاهة وأستاذنا الشاب بطوله المهاب يعدو حاملاً أعز الأصحاب مما يدل على فرط قوته وكمال ليقاته ومتانة بنيته، كما كان الشيخ في طور من حياته محباً لكرة القدم في غير تعصب لأحد القطبين؛ إذ كان يميل إلى تشجيع المنتخب القومي في زمن طه إسماعيل والشاذلي وأبي جريشة.
كما كان ماهرًا في لعبة الطاولة ينافس أقرانه ويتغلب عليهم بحنكة ومهارة وقلما تعرض لهزيمة أو خسارة.
٧-رحمته بالصغار وحرصه على طلبته وآية ذلك مارواه الأستاذ محمد عطية الدركسي في أحد تعليقاته – وكان من تلامذة أستاذنا-أن الشيخ عبد الرؤوف أملى على تلاميذه ذات صباح قطعة إملائية وبعد تصحيح الدفاتر فوجئ التلميذ النجيب بأنه قد حصل على تسع درجات فقط فألم به الحزن وعلاه الوجوم وبعفوية الأطفال وبراءتهم سأل أستاذه عن سبب نقصانه لتلك الدرجة علماً بأنه لم يخطئ قط بدليل أن المداد الأحمر لم يستدرك عليه هفوة إملائية كعلامة ترقيم منسية أو هنة كتابية ولما ألح التلميذ علي شيخه كي يبين له موضع الخطأ تبسم ضاحكاً وربت على كتف تلميذه بود ممدود وعطف معهود ثم أشار بسبابته إلى جملة “الحديقة الجميلة رائعة “وقال ياولدي لقد كتبت الحديقة في منتهى السطر وبدأت السطر التالي بكلمة الجميلة والأولى نحوياً والأصوب إملائياً أن تتبع الصفة موصوفها مباشرة دون فاصل بينهما حتي ولو كان خطاً أوسطرًا”
هنالك تبسم التلميذ وأذعن لرأي أستاذه القويم وامتثل لما حكم به من تقييم.
ومما يؤثر عنه أيضاً أن واحدًا من تلاميذه كان متوقد الذكاء واسع الفهم قوي الحافظة ذا ميل فني للإبداع والرسم لكن ظروفه العائلية كادت أن تحول بينه وبين إكمال حلمه ومواصلة مسيرته التعليمية بعد انفصال أبويه وتعثر الظروف المادية لوالدته الفلاحة البسيطة فأقعدت ولدها عن الذهاب إلى المدرسة؛ جراء عسرها وعظم فاقتها لكن الأستاذ الحنون تفقد طلابه عدة أيام فقال في نفسه مالي لا أرى الفنان الصغير أم كان من الغائبين؟!
ولما تأكد له انقطاع الطالب لثلاثة أيام متواصلات ذهب بنفسه إلى والدته واستمع لشكايتها ثم طلب إليها أن تعيد نجلها للمدرسة وسوف يتعهد بمصاريف دراسته وكُلفة كسوته كليهما وبالفعل أوفى الرجل بما عاهد الأم عليه وصار الولد بمثابة أخ غير شقيق لنجله ممدوح وتقلبت بهما الأيام وصقلتهما السنون والأعوام فصار عبد الرؤوف موظفاً بالديوان وأضحى زميله الفنان معلماً لأجيال وشبان ثم مديرًا تربوياً يشار إليه بالبنان فسبحان الحنان المنان.
رحم الله شيخنا الجليل وأستاذنا الأصيل وجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.