مع بداية كل عام جديد تسعي دول العالم لتحديث وتطوير رؤيتها الإستراتيجية بما يتوافق مع المتغيرات الواقعة في دوائر أمنها القومي ، فبشكل عام تعتمد الدول علي وضع رؤي استراتيجية عامة طويلة المدي تمتد لخمس سنوات قادمة
إلا أنه لابد من إجراء تعديلات علي الإستراتيجية بشكل سنوي وفقا لطبيعة المتغيرات العالمية علي المستوي السياسي والعسكري والإقتصادي التي تفرض نفسها علي الساحة ويكون لها تأثيراتها المباشرة أو غير مباشرة علي الدولة .
وبالنسبة لمصر فإنها تتبني استراتيجيات عامة محددة في تعاملاتها مع الدول والتكتلات العالمية، بما يتسق مع سيادتها، وبما يتناسب مع أمنها القومي الذي هو مفتاح وجهتها، وبوصلتها عند اتخاذ القرارات الاستراتيجية، وتحديد سياساتها المستقبلية.
وتعد المرجعية التي تتحرك من خلالها مصر في تحديد ورسم استراتيجيتها هي دوائر الأمن القومي التي تتمثل في ثلاثة دوائر هي الدوائر البعيدة، والدوائر القريبة، اللذان يتقاطعان فيما بينهما فيما يعرف باسم الدوائر الخطرة، ذات الطبيعة المتغيرة، وفقاً لتغير الأحداث العالمية.
وفي حديثنا اليوم سنتناول الاستراتيجية التي تتبناها مصر نحو دول القوي العظمي، التي تؤثر على أمنها القومي من منظور بعيد، وتعد في ذات الوقت امتداد له
تشمل تلك الاستراتيجية الدوائر البعيدة للأمن القومي المصري، وهي الدائرة الأمريكية، والدائرة الأوروبية (عدا روسيا)، والدائرة الروسية، ثم الدائرة الآسيوية، وأخيراً دائرة جنوب غرب آسيا. وقد تحدد ترتيب تلك الدوائر وفقاً لأهميتها بالنسبة لمصر، سوف نتناول كل منها بشيء من التفصيل.
تعد الولايات المتحدة الأمريكية أهم دولة في دوائر الأمن القومي المصري البعيدة، نظراً لعدة عوامل منها اعتماد مصر، إلى حد كبير، علي التسليح الأمريكي، من خلال المعونة العسكرية الأمريكية لمصر، المقررة باتفاقية السلام بكامب ديفيد. إضافة إلى القوة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية، ودعمها الحالي لمصر، بعد وصول الرئيس جو بايدن للسلطة، وحرصه على إعادة التوازن في العلاقات السياسية والعسكرية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، بعد سنوات من حدوث خلل في ميزان تلك العلاقة الاستراتيجية القائمة تاريخياً، وذلك بسبب سياسات الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والتي أظهر فيها الكثير من التعنت تجاه مصر الذي تمثل في وقف المعونة العسكرية لمصر وإيقاف التدريبات العسكرية المشتركة مع أمريكا النجم الساطع ثلاث سنوات.
أما الآن، فقد بلغت العلاقات الثنائية قمتها بوصول الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب وبدخول أمريكا إلى الشرق الأوسط للتعاون مع مصر في حربها للقضاء علي الإرهاب، وقطع أواصره في المنطقة … ومن ناحية أخري، بعد وصول الرئيس جو بايدن الي السلطة أصبحت مصر بالنسبة للولايات المتحدة أحد أهم دول الارتكاز في المنطقة، خاصة بعد نجاح مصر في تحقيق وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في حرب غزة الرابعة والخامسة، ثم جهودها حاليا في حرب غزة التي بدأت يوم ٧ أكتوبر ۲۰۲۳م، ودورها في عمليات التهدئة وتبادل الأسرى والرهائن الإسرائيليين والفلسطينيين.
فقد فرض المشهد في المنطقة مابعد حرب السابع من أكتوبر ظهور دور جديد لمصر ،جعلها علي رأس مجموعة التفاوض بين حماس وإسرائيل ، بالإضافة لكونها المعبر الوحيد لمرور قوافل الإغاثة إلي غزة سواء برا أو جوا ، وقد كان الموقف المصري واضحا منذ اللحظة الأولي بإعلانها رفض أي اعمليات نقل أو ترحيل لأهالي غزة إلي سيناء ،مع التأكيد علي مسألة حل القضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين ،وهو الأمر الذي أيدته الولايات المتحدة وظهر ذلك واضحا من خلال الزيارات الخمس لوزير الخارجية الأمريكي بكيه إلي مصر وكذلك زيارة رئيس المخابرات الامريكية CIA ، كلا بهدف وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن والسجناء الفلسطنين.
وبعد أن أصبحت الان الولايات المتحدة الأمريكية علي وعي تام بأهمية الدور المصري في ملف الشرق الأوسط وأنها المحرك الرئيسي في المنطقة خلال السنوات القادمة ،الأمر الذي سيكون له تأثيراته في الإستراتيجية المستقبلية التي ستتبناها الولايات المتحدة خلال الفترة القادمة نحو الشرق الأوسط ، ونفس الشىء بالنسبة للاستراتيجية المصرية نحو الولايات المتحدة خاصة وأن مصر في حاجة إلي الدعم الأمريكي سواء علي المستوي السياسي أو العسكري خاصة في المحافل الدولية .
أما من حيث الاستراتيجية المصرية نحو الدول الأوروبية، التي تحتل المرتبة الثانية في ترتيب دوائر الأمن القومي المصري البعيدة، فتكتسب أهميتها من الناحية السياسية، لما يتمتع به الإتحاد الأوروبي من ثقل سياسي، تحتاجه مصر في مواقفها الدولية، فضلاً عن اعتبارات الجوار بين مصر وعدد من دول الإتحاد الأوروبي على شواطئ البحر المتوسط، مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، وكل هذه الدول تشارك مصر في أمنها القومي من ناحية البحر المتوسط، وتشارك في تأمين أي أحداث في شمال أفريقيا، وخاصة الوضع في ليبيا الذي يمثل حساسية خاصة، وامتداداً طبيعياً بالنسبة للأمن القومي المصري، يضاف إلى ذلك الأهمية العسكرية لتلك الدول، إذ أصبحت دول الاتحاد الأوروبي تشارك مصر في سياستها الجديدة في تنويع مصادر السلاح، خاصة من السوق الفرنسي، والسوق الألماني، والايطالي .
حيث يذكر لمصر شراء عدد أربع غواصات، من أحدث الأنواع من ألمانيا. كذلك شراء أربع فرقاطات ألمانية ثلاث منهم يتم تصنيعهم في ألمانيا. والرابعة سيتم تصنيعها في الترسانة البحرية في الإسكندرية، وقد عزز ذلك التعاون من عمق العلاقات المصرية الألمانية .
وبالنسبة للعلاقات المصرية الفرنسية فقد كان شراء مصر لحاملات المروحيات المسترال والفرقاطات البحرية دليل على توافق العلاقات المصرية الفرنسية ، الأمر ذاته مع إيطاليا بعد شراء الفرقاطات الإيطالية ،وتجيئ التدريبات المشتركة مع هذه الدول الثلاثة في البحر المتوسط كتوثيق أكثر عمقاَ للعلاقات العسكرية، بالإضافة إلي الهدف الخاص بتأمين الغاز المصري في شرق المتوسط.
كذلك تأتي العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الاتحاد الأوروبي كمحور ثالث لأهمية تلك الدائرة الأوروبية للأمن القومي المصري، من خلال سعي مصر لزيادة معدلات التبادل التجاري بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي، وزيادة تبادل الخبرات ممثلة في اتفاقات التصنيع المشترك ودعم هذه الدول لمصر في الاتفاقيات الاقتصادية مع البنك الدولي خاصة في هذه الفترة.