يكتب «رشيد الضعيف»؛ الروائى والأكاديمى اللبنانى، سيرةً حياتية روائية، ويعنْونها بـ«ألواح»، وفيها ينسِج السردُ – عبْر معظم فصول السيرة – مشاعرَ الطفولة الفطرية، بغرائزها البدائية غير المعقَّدة، ويسلِّط الكاتب الضَّوء على حكاياتِ ومواقفِ أُسرته الكبيرة، التى سكنَت الجبلَ، فى منطقة «أهدن»، وبداخل هذه الأُسرة يتشكَّل دور الأُم محوريًّا ومؤثِّرًا، حيث مقامها الداعم الراسخ لأولادها الثمانية، كيانها المتوحِّد معهم، وخاصة شخصية الكاتب، وتكوينه النفسى.
يصِف الكاتب والدتَه، ويجمَع بينها وبين طبيعته، يقول: «كانت قوية، وصلبة، وصامدة، ودبارّة وصامتة، والتى كانت تُدير بمزاجها، دون كلام، مملكةً بأكملها، لا بيتًا أو عائلة وحسْب.. وكانت قادرة على ذلك، وهى تقوم بأعمال البيت،… لذلك؛ أيْ لأن والدتى على هذه الصفات؛ أنا مقتنع على الدوام بأن التجارب مهما تقسو علىّ؛ أنا ابنها؛ فلن تنال مِنى. لن أنهارَ يومًا. «شو ما صار يصير» لأننى ابنُ أُمى. 17
يحكى عنها فى أصعب المواقف، التى يمكن أن تمُر على أُم، ذلك حين أُصيب ابنُها بطلْق نارى، وذهب فى غيبوبة من كثرة النزف، يقول: رأت والدتى ابنَها البكر (يوسف) ينزف، وهو على طاولة متحرِّكة؛ فانْدَبَّت عليه، لكنَّ الممرِّضَ وجارَنا السائقَ ردَّاها عنه. والدى لم يتدخَّل. منعاها من الانقضاض عليه، وإعادته إلى البيت سليمًا كما كان قبْل ساعة. منعاها من الانقضاض عليه، وأخْذه إليها، وضَمِّه، والالتصاق به، وتحويل جرحه إليها، يناسبها أكثر أن تكون هى المصابة، أفضل لها ألف مَرَّة. 39
وفى عدد من المواقف – التى تتوالَى فى السردية – يشعُر القارئ بصفات الكاتب، التى تُبرز نوعًا من التحدى والجرأة، والقدرة على المواجَهة، وعدم خشية ردود الأفعال، شجاعته حين وقَف وأعلن رفْضه لضحك زملائه، عندما نادَى دكتور (نزار الزين)؛ أستاذ عِلم النَّفْس فى الجامعة، اسمَه، وذَكَرَ لقَبَ العائلة: «الضعيف» 13، ومنطقه وهو يحكى عن كمون أبيه للشاب (كامل)، الذى أصاب ابنَه البِكر، ببندقية الرش، إثْر عِراك بينهما، وتسبَّب فى بتْر رِجْلِه: الاقتصاص لا مفَر منه؛ حتى لا «يستوطى حِيطنا»، وحتى لا يصبح فى مقدور أيٍّ كان الاعتداء علينا ساعة يشاء. 44 ثم يصِف النظامَ العائلى القبَلى بالظلم، بَعد أن حكَم الوجيهُ، الذى يتبعونه، بعدم القتل ثأرًا، أو إقامة دعوى، والقبول بالتعويض، الذى يستحيل أن يقْبَلوه. ولذا شَعَر بأن الشيوعية على حق.
وفى واقعة كَذِبِ الصحفى الفرنسى عليه، وادِّعَائه تصريحات له لم يَقُلْها، حول اضطهاد المسلمين للمسيحيين فى لبنان، وردِّه القَوى على أحد مناصرى حزبٍ إسلامى جهادى، حين قال له عبْر الهاتف، ودون خشية: أولًا أنت لست المسلمين لتقول لى: «أتظن أن المسلمين لا يُحسِنون قراءة الفرنسية، والمسلمون ليسوا أنت، ثم أننى لن أستجدى رحمتك ببرهان براءتى، بل إننى أتحدَّاك أن تجرؤ على شىء، وأقفلت الخط». 105
كما اكتسبَ الكاتب أيضًا بعضَ صفات الجبل، الذى عاش فيه متماهِيًا مع ارتفاعه وصلابته، وأيضًا مع ينابيعه المعطاءة. فبالرغم من حُب الكاتب لعزْف الناى، تأثُّرًا بجَده، فقد عزَف عنه؛ كراهةَ أن يرمى أحدٌ عليه النقود، رغم احتياج والده لتلك الأموال، وفضَّل صاحبُ السيرة العِلمَ والقِيَم، التى تصون الكرامة الإنسانية، لا مجرد تحصيل الأموال فقط. 52
يقول صاحب السيرة، منذ المقدمة: «لا أحدَ يعرفنى على حقيقتى، ولا أنا نفسى أعرف نفسى على حقيقتها».6
هذه الذهنية التوَّاقة إلى المعرفة، واستبطان المعانى، والبَشر من حولها، والوعى بذاتها، تأنف من البداهة والوضوح، وتُعلن رفْضها لوقار الفكر الوثوقى الكاذب، يقول، وهو يصف براءة أُمِّه، وأثَرَ هذه البراءة على تربيتهم: «أُمى مسؤولة أيضًا. أُمى هى التى ربَّتْنا، البراءة مسبِّبة للآلام أيضًا، البراءة مثيرة للغضب، البراءة ليست صِفة منزَّهة بالخالص، كثيرًا ما تكون إصابة، وكثيرًا ما تكون إصابة بليغة».101
يُدرِك صاحب السيرة أن التمايُزَ الواضح، وصرامةَ التحديد، أوهامٌ، ولذا يشعُر المتلقى للسيرة أنه أمام بوْح صادق، حتى لو بدا صادمًا؛ لأنه ينطلق من وعى يجمع المتناقضاتِ، فالقِيَم التى انتخبتها البشرية، كالخير والشر، أو القُبح والجَمال، عادةً لا تقع فى الأطراف القُصوَى فى السلوك البَشرى، بل تتوسَّط المنطق والمنظومة الأخلاقية، ولذا نستشعر أن الروح الكامنةَ داخل السرد تبوح بأدَقِّ مشاعر الكاتب، بوعى عميق، تبوح بطبيعة الحياة، ولن تَهَبَ قارئَها أفكارًا ومسلَّماتٍ يقينيةً؛ بل ستتركه يتساءل حول العالَم والحياة، وذلك لأنها تضع الإنسان والحياة البشريةَ فى موضِع السؤال الدائم.
هذه الذهنية تواجِه هشاشة الوجود، ومكْر التاريخ، ومناطقَه القلقة، ومروياته بإعادة الطرح، وعدم الركون إلى المباشَرة، بالبُعد عن تكرار الحكايات الرتيبة والتقليد، بالمرَاوَحة بين العقلانية، والذى يحدُث وكفَى، وذلك بإدراك أن للحياة أبعادًا أخرى تتحكم فى مصائرنا، لذا فهى تقاوِم الفكر المبتسِم انتصارًا للجهوزية.
ويشعُر القارئ – فى حكْى الكاتب عن فترة طفولته وصباه – بأنه يتحدث عن كتلة بشرية كاملة، الأُسرة بكاملها كيان ملتصِق، بمعنى أنه لا يحكى عن فردانيته إلا نادرًا، يحكى عن نفْسه وإخوته وأُمه معًا، ثم عن هذه الكتلة وأبيه، وهو ما يشى بحميمية الارتباط بين الأُم وأبنائها، بصِلَةٍ خاصة تَهَب القوةَ لكلٍّ منهم، عندما يتحقق الاتصال، ووحدة الموقف، كما يدلِّل على وعى الكاتب بضعف التفرد أمام قوة التعدد، وبراحاته الشاسعة، وفقْر الاقتصار على الأنا أمام غِنَى الآخَر، والوحدة معًا، ويستشف المتلقى هذه المعانى من خلال عِدَّةِ مواقفَ حياتية لهذه الأُسرة، وعِدَّةِ آلياتٍ فنية سردية: فحين يصِف الكاتب المكانَ، حيث البيت الذى جمعهم، وتصميمه؛ تستشعر تَضَامَّ الكتلة، التى تقيم فيه، ووحدتَها، رغم كثرتها.
وحين يصِف حركتَهم، وهم يراقبون المَرَّة الوحيدة، التى خرجت فيها أُمُّهم، حيث دعاها الأب للعشاء فى أحد المطاعم بمفردهما، ثم امتناع الأم عن تناوُل وجْبَتِها، وترْكِها لتُطعِمَها لجميع أبنائها، تستشعر وحدتهم معًا، وخيوط المحبة التى تحرِّك كتلتهم فى محيط واحد، مهما خرَج أحدهم من الدائرة، وكما يستمِدُّون تماسُكَهم من أُمِّهم «ياسمين»، وتستمد هى الأخرى قوَّتَها منهم، حتى من قبْضها على زِند ابنها المصاب، الذى ينزف.40
كما يرافق الكاتبُ أباه، بَعد حادثة بَتْرِ رِجْل ابنه البِكر (يوسف)، فيقول: «عندما وقعت الحادثة، وبُتِرت رِجْل أخى؛ بَقِىَ والدى أيامًا عديدة لا يستطيع الاستقرار على كرسِيِّه أكثر من دقائق، كان يمشى بدون هدف، ويغيب فى الحقول، حول البلدة.. كان والدى يُطْرِق إلى الأرض، ويمشى دون أن ينطق بكلمة، وكان وجْهُه متجهِّمًا، كان متفحِّمًا، ليس لأنه أهمل لِحيتَه وترَكَها تطول بلا ضابط أو خطة أو هدف؛ بل لأنه كان مطفَأ، كان وجْهُه مطفَأ، لم يَعُد فى عينيه نور». 45، 46
من السمات المميَّزة فى هذه السيرة – رغم صدورها 2016 – أن مشاعر صاحب السيرة تجاه المواقف والبَشر تصل للقارئ، وكأنها قد حدَثت للتوِّ، وأن الكاتب حين شرَع يدوِّنها؛ عاد طفلًا وصبيًّا ليكتبها، خاصة حين يحكى عن الرجُل الذى أُعجبت به أمه، فيشعر المتلقى أن كل هذه المشاعر وردود الأفعال له ولإخوته لا تقع لحظة كتابة هذه السيرة عام 2015؛ بل قبْلها بعشرات السنوات، حيث تنقُل روحُ السرد مشاعرَهم وهُم صِبية، زمن وقوع هذه الأحداث؛ أىْ قبْل وصول الكاتب لنُضجه الفكرى واستيعابه لحالات البَشر المعقَّدة.
ورغم قرار الكاتب البُعد التام عن النضال، بعد الخيبات التى شَعَر بها بعد الحرب الأهلية فى لبنان عام 1975، وشَكِّه فى كل القضايا السياسية والأفكار الفلسفية، وبالطبع تساؤلاته حول التعددية الطائفية والعِرقية، التى يتشكَّل منها المجتمع اللبنانى، واختلاف الديانات، والتَّبِعات التى تنشأ جرَّاء كل هذا التنوع والصراع والتناحُر، فإنه – وهو فى معرَض حديثه عن ذاته – يصوِّر انعكاساتِ كُلِّ هذا التعدد على الأفراد والمواطنين، بما يتضمَّنه هذا الاختلافُ من صراعات تنشأ دومًا مع الآخَر المختلِف، يقول: «لى أعداء ينبتون بلا توقُّع، فجأة، ويطلِقون علىّ حِقدَهم؛ فيصيبوننى أو أنجو بلا إصابة، ولكن نادرًا ما أنجو بلا أثَر، أعداء ينتصبون فجأةً أمامى من لا شىء، من زِفت الطريق، من مبنًى متهاوٍ، من مبنى أثرى، من بُرجٍ قَيْدِ البناء، من كراسى الأمكنة، من نِسمة هواء، من عاصفة متوحِّشة، من ظِل شجرة، من غصنٍ طرىّ، بل إنهم يبرزون من نظرة، من رِقَّة حبيب، أو إخلاص صديق، وكثيرًا ما يَخرُجون من جيبٍ تحت جِلدى أنا بالذات.6
لا يقتصر حديث الكاتب عن الآخَر المختلِف الخارجى فقط؛ بل يُشير لصراعاته الداخلية مع ذاته، من فلسفته ورؤاه، التى لا تستقر على حال أو يقين، ومن ثم الأعداء الذين يَخرُجون منه.
ولعلنا نلحظ استخدام الروائى للمجاز والرمز والكنايات؛ لبلْوَرة انعكاسات الواقع السياسى الاجتماعى الثقافى على الإنسان فى المجتمع اللبنانى، دون أىّ استعراض خَطابى أو فلسفى، ودون مواجَهة مباشِرة تخصِم من آليجورية فن السرد، كما يمكن أن تضُرَّ الكاتب فى وطن متعدِّد البِنَى المجتمعية الثقافية.