“اليوم التالي” … “ماذا بعد؟” … “What is after?”، مصطلحات ثلاث، إذا ما طبقناها على حرب غزة، فمعناها “من سيسيطر على غزة بعد انتهاء الحرب؟”، وقد برزت تلك المصطلحات منذ بدء الحرب في غزة، نتيجة للخبرات المكتسبة، من قرارات الولايات المتحدة الأمريكية، ودول حلف الناتو، منذ 12 عام، حين تم التخلص من الرئيس الليبي، معمر القذافي. اتُخذ القرار حينها، ونجحت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، ليس فقط في إزاحته عن الحكم، بل في القضاء عليه، دون التفكير في مستقبل ليبيا، ومآلها، بعد ذلك.
ولأن مصير ليبيا، واستقراراها، لم يكن، أبداً، الهدف، فقد ظلت ليبيا، منذئذ، وطيلة 12 عام، تتخبط؛ فانقسمت بين دولة في غرب ليبيا عاصمتها طرابلس، ورئيس وزرائها عبد الحميد الدبيبة، وأخرى في الشرق، في بني غازي، رئيس وزرائها الفريق خليفة حفتر، ولا يستطيع أحد الجزم بمصير ليبيا، ولا بخارطة الطريق للم الشمل، من خلال إجراء انتخابات رئاسية، وبرلمانية، وتعيين رئيساً للوزراء، لتعود الحياة إلى طبيعتها. والدليل على أن مستقبل ليبيا لم يكن موضع اعتبار، فبعد أعوام من التخلص من الرئيس القذافي، استجوب البرلمان البريطاني حكومته، متهماً إياها بالإخفاق يوم وافقت على قرار التخلص من القذافي، دون التفكير في ترتيب أوضاع ليبيا، أو “What is after?”، بعد تنفيذ القرار.
ونتاجاً لتلك الخبرة، خرجت الولايات المتحدة، بعد شهر من بدء حرب غزة، بسؤال عمن سيحكمها بعد انتهاء الحرب وخروج إسرائيل، وطُرحت خمسة سيناريوهات للإجابة على السؤال؛ تبلور أولها في زيارة وليام بيرنز، مدير الاستخبارات الأمريكية، للقاهرة، ولقاؤه بالرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث طرح بيرنز، الذي يترأس أحد أهم أذرع إدارة السياسة الخارجية الأمريكية، السيناريو الأول “لليوم التالي”، والذي ترى فيه أمريكا تولي مصر إدارة قطاع غزة، لفترة انتقالية، مدتها ستة شهور، يتم خلالها إجراء انتخابات، وتعيين حكومة تكنوقراط من أهالي غزة، على أن تتحمل أمريكا كافة التكاليف المرتبطة بتلك المهمة، مالياً وعسكرياً، ودعم مصر باحتياجاتها من الأسلحة والمعدات العسكرية اللازمة لإدارة قطاع غزة.
ورغم سخاء العرض المالي، والعسكري، إلا أن بيرنز فوجئ بالرفض، القطعي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لذلك السيناريو، عارضاً سيناريو بديل، أو السيناريو الثاني، بأن تتولى السلطة الفلسطينية، في رام الله، إدارة القطاع، باعتباره الحل البديهي، والطبيعي، لتعزيز السيادة الفلسطينية على أراضيها، ومنع التدخلات الأجنبية، حتى وإن كانت من مصر. وقد أيدت مجموعة الدول العربية ذلك الطرح، وبالطبع، رفضته إسرائيل. وعرضت إسرائيل، من جانبها، السيناريو الثالث، بتولي مجموعة من “العشائر العربية”، في قطاع غزة، الموالية، بالطبع لإسرائيل، السيطرة على قطاع غزة، خلال الفترة الانتقالية المتفق عليها، لحين إجراء الانتخابات، وهو ما لاقى إجماع في الرفض من مصر، والدول العربية، والإدارة الفلسطينية، في رام الله، بل حتى أن الولايات المتحدة لم ترحب به، باعتباره حل غير منطقي.
وفي محاولة الوصول لسيناريوهات بديلة، فوجئنا خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، إلى أمريكا، مؤخراً، بعرض سيناريو رابع جديد، لليوم التالي من نهاية الحرب، والذي يقترح فيه تشكيل قوة عسكرية عربية، من القوات المسلحة لعدد من الدول العربية، تتولى إدارة والإشراف على قطاع غزة، لمدة ستة أشهر، يتم خلالهم إجراء انتخابات داخل القطاع، لاختيار أعضاء حكومة تكنوقراط، وهو ما رفضته مصر، مرة أخرى، ومعها باقي الدول العربية، إدراكاً منهم لمحاولات إسرائيل، بهذا السيناريو، من الوصول إلى هدفها الأول، والرئيسي، وهو إقصاء حماس من قطاع غزة.
أما خامس، وآخر، السيناريوهات المطروحة، مؤخراً، فخرج من الولايات المتحدة الأمريكية، والذي عرضت فيه تكوين قوات دولية، متعددة الجنسيات، مثل “قوات يونيفيل” الموجودة في جنوب لبنان، على أن تتولى الإشراف على قطاع غزة، لنفس المدة الانتقالية المحددة، ولحين إتمام الانتخابات، وتعيين الحكومة الفلسطينية في غزة، معلنة عدم مشاركة الولايات المتحدة، بقوات أمريكية، في تلك القوة، ومتعهدة بعدم بقاء جندي أمريكي واحد، على أرض قطاع غزة، بعد انتهاء القتال، وخروج القوات الإسرائيلية. ومرة أخرى، لم ترحب مصر ولا مجموعة الدول العربية، بهذا العرض، انطلاقاً من حيث ثوابت عدم السماح بالتدخل الأجنبي، وحق الشعب الفلسطيني المشروع في تقرير مصيره، والسيادة على أراضيه، وهو ما ترى مصر أنه لن يتحقق إلا بتولي السلطة الفلسطينية، في رام الله، إدارة قطاع غزة.
وكما سبق وأوضحنا، فإن إجابة سؤال “ماذا بعد اليوم التالي؟”، أو “What is after?”، دارات، حتى الآن، حول السيناريوهات الخمس، المطروحة، التي استهدف، بعضها، ضمان حسن إدارة قطاع غزة، لحين انتخاب حكومة جديدة به. ومؤخراً، أعلنت الإدارة الفلسطينية، في رام الله، عدم ممانعتها لوجود قوات عربية، أو حتى دولية، في قطاع غزة، لإدارته، والإشراف عليه، لمدة ستة أشهر، كفترة انتقالية، بشرط اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بأن وجود تلك القوات ليس مجرد غطاء حتى خروج حماس من القطاع، مع تعهدها، مقدماً، بتسليم إدارة قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، في رام الله، بعد انتهاء مهمة القوات العربية أو الدولية، والتزامها بألا تبقى تلك القوات بعد الفترة المحددة لها.
ونتابع في الأيام القادمة استمرار الجهود الرامية لعودة السلام، وتهدئة الأوضاع، ليس في غزة، فقط ، وإنما في المنطقة، الملتهبة، بأكملها.