في هذا العام، لاحظت مرور يوم 18 يونيو دونما انتباه لكونه ذكرى أحد أهم أعياد مصر، في العصر الحديث، وهو عيد الجلاء، الذي يؤرخ يوم خروج، أو جلاء، آخر جندي بريطاني عن الأراضي المصرية، في ذلك اليوم من عام 1956، بعد ما يزيد عن سبعين عاماً، تجرعت خلالهم مصر مرار الاحتلال الإنجليزي، الذي نهب ثرواتها وخيرها، وقيد حرية أبنائها، ورغم جبروت الاحتلال وطغيانه، لم يتهاونوا يوماً عن مقاومته، وبذل أرواحهم الطاهرة في سبيل عزة وطنهم، حتى كان لهم ما سعوا من أجله.
في 19 أكتوبر 1954، وقع الزعيم جمال عبد الناصر، واللورد ستانسجيت، اتفاقية الجلاء، التي نصت على خروج الجيش البريطاني من عموم الأراضي المصرية على خمس مراحل، في مدة عشرون شهر، فخرج، بالفعل، 80 ألف جندي بريطاني من منطقة تمركزهم في قناة السويس، ورحل آخر جندي يوم 18 يونيو 1956. كما نصت الاتفاقية على عدم جواز استخدام مصطلح التحالف الوارد في اتفاقية لندن في 26 اغسطس 1936، وتم إعلان قناة السويس مجرى مائي دولي، وأنها جزء لا يتجزأ من الأراضي المصرية، وأُزيل العلم البريطاني من آخر نقطة في مصر، وهو مبنى قناة السويس، في مدينة بورسعيد، وهو أول مبنى قاموا باحتلاله عام 1882.
يرجع احتلال بريطانيا لمصر لصيف 1882، بعد انعقاد مؤتمر الأستانة، إسطنبول حالياً، الذي قررت فيه بريطانيا ضرورة السيطرة على مصر، والتحكم في قناة السويس، ولما رفض، حينئذ، السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذلك التوجه، قررت بريطانيا احتلال مصر منفردة، وبدأ الأسطول البريطاني بقصف الإسكندرية في 11 يوليو 1882، واستطاع اقتحام المدينة، والتوجه للقاهرة. وحينها أعلن الزعيم أحمد عرابي التعبئة، واشتبك الجيش المصري، بقيادته، مع القوات البريطانية الغازية، في معارك عدة، كان آخرها معركة التل الكبير، التي هزم فيه عرابي، واحتلت بريطانيا مدن القناة؛ بورسعيد والإسماعيلية والسويس.
وفي عام 1934، ورغم استقلال مصر عن بريطانيا، إلا أنها ظلت، فعلياً، تحت الاحتلال بوجود الجيش البريطاني في عدة مدن في مصر، وباستمرار سيطرتها على منطقة قناة السويس. وشهدت فترة الاحتلال البريطاني لمصر، عدداً من الثورات كان أهمها 1919 بقيادة الزعيم الراحل سعد زغلول، وصولاً إلى ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952. والحقيقة أن الاحتلال البريطاني لمصر أتى ضمن المطامع العالمية في مصر، التي ظهرت كذلك من خلال حرص هتلر على ضرورة احتلالها أثناء الحرب العالمية الثانية، لحرمان بريطانيا من طريق المواصلات إلى الهند، المضمون لها من خلال سيطرتها على قناة السويس.
لذا فواجب على الأجيال الجديدة من شعب مصر، أن تعي تاريخ وطنهم الغالي، وتعلم أن هذا الشعب العظيم كان من أوائل الشعوب التي نالت حريتها، ولم تقف عند هذا الحد، فحسب، بل ساعدت العديد من الدول، خاصة الأفريقية، على الخروج من عباءة الاستعمار، سواء البريطاني أو الفرنسي. ولقد كان العدوان الثلاثي على مصر، في عام 1956، استمراراً لنضال شعب مصر العظيم في الدفاع عن حرية أرضه، الذي كانت بدايته عندما رفع الرئيس عبد الناصر العلم المصري على مبنى قناة السويس في بورسعيد، في 18 يونيو 1956، وكانت النهاية بعد أن خرج الإنجليز من بورسعيد يوم 23 ديسمبر، من نفس العام، ليسجل اليوم عيداً للنصر، الذي يطوي صفحة الاحتلال البريطاني لمصر، وتعود مصر، كعهدها، بلداً حرة كريمة.
وتشير العديد من المراجع البريطانية، تحديداً، إلى أن أسباب حرب السويس في عام 1956، ترجع لشعور بريطانيا بالخطأ في توقيع، وتنفيذ، اتفاقية الجلاء عن مصر، ورغبتها في “تصويب” ذلك الخطأ، والعودة لاحتلال منطقة قناة السويس، مرة أخرى. لذلك، ففور إعلان تأميم قناة السويس، جاء القرار البريطاني سريعاً، باستغلال حقد فرنسا على مصر نتيجة دعمها لثورة الجزائر، واعتماداً على رغبة إسرائيل في الرد على هجمات الفدائيين المصريين على قواتها في فلسطين، لتجعل من كل هذه العناصر وقوداً لشن العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956، والذي لم يصمد أمام المقاومة المصرية حتى نهاية نفس العام. لذلك يعد الاحتفال بجلاء الإنجليز عن مصر، أحد أعظم الانتصارات المصرية في القرن العشرين، لتعود مصر حرة بعد احتلال دام لأكثر من سبعين عاماً.
واليوم، أكتب مقالي هذا ليكون درساً للأجيال القادمة، لكي تتعلم تاريخ مصر، وكفاح شعبها العظيم عبر التاريخ لنيل استقلاله وحريته. ورغم تغير الظروف والأزمنة فما زالت مصر تقاتل، حتى الآن، ليس من أجل استقلالها، وإنما للحفاظ على أمنها القومي، على جبهاتها الاستراتيجية الأربعة؛ في الاتجاه الشمالي لمواجهة الأطماع في غاز المتوسط، وفي الاتجاه الشمالي الشرقي لضمان حقوق فلسطين أمام العدوان الإسرائيلي، وفي الاتجاه الغربي من ناحية ليبيا، التي تعاني انعدام الاستقرار، وفقدان بوصلة تحديد المصير، وفي الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي حيث دخلت السودان في نفق مظلم من الحرب الأهلية، فضلاً عما يعانيه باب المندب من سيطرة الحوثيون وما لذلك من انعكاسات على قناة السويس. ومع ذلك ستظل مصر، دوماً، صامدة وصلبة في التصدي لكافة التحديات، للحفاظ على أمنها واستقرارها ومقدرات شعبها العظيم.