آراء حرةعربي ودوليفن وثقافةمانشيتاتمحافظات

في مشروع (محمد الفخراني) السردي

تكتب د. أماني فؤاد

في مشروع (محمد الفخراني) السردي

‏”حدَث في شارعي المفضَّل” نموذجا

في مساحة العلاقة الممتدة بين نصوص محمد الفخراني السردية والمتلقي، تكتشف القراءة ‏النقدية خطة ذكية يُضْمرها الكاتب، ويضع فيها قرَّاءه، حالة من الالتباس والمكر المحبَّب ‏التي يُوقع فيها الجميع، ففي كل نَص جديد للفخراني سيجد المتلقي مواجهاتٍ سرديةً ‏فريدة، حالة فنية غير معتادة، فالكاتب يمارس التجريب والإبحار في عوالمَ إنسانيةٍ ‏مدهشة، يخلِّقها، ويعرِض فيها لأفكار مغايرة؛ يفسر الحياة بطريقته ومكوِّنات الوجود، ولذا ‏سيبدو قارئ نصوص الفخراني مدعوًّا لحالة من التأهب للجديد والممتع معًا في كل ‏إصدار له، حيث دهشة العوالم الغرائبية، التي يهيِّئ لها، تلك التي تستدعي النظر ‏العميقَ وتأمل الحيوات والشخصيات، في آخر رواياته “حدَث في شارعي المفضَّل” يختفي ‏اللون الأصفر من الحياة، ثم تختفي النوافذ، وإذا بالشوارع المحبَّبة لكل فرد تختفي من ‏الوجود، ثم يختفي البشر، وترحل الأرض إلا موقعًا صغيرًا لبيت طيني، يسع امرأة ‏أرضية. ‏

لا يقدِّم الفخراني لقرَّائه حالة من اللهاث فوق أسطُر الحكي، أو التشويق المتناهي، ولا ‏دهشة الفضول والإثارة القصوى؛ بل الدهشة السهلة العميقة، التي تتكون حثيثًا، الدهشة ‏التي تدعو لنمو الأفكار الجدلية والممتعة معًا.‏

‏ لماذا يُعد محمد الفخراني كاتبًا نوعيًّا مميَّزًا؟

لأنك لا تتوقع عالَمَ النَّصِّ ولا فضاءاتِه، يعالج قضاياك دون أن يحاكيها أو يكررها؛ بل ‏يخلِّقها بصورة إنسانية متفردة، الفخراني يناوِش الواقع، ويجعلك تتأمله؛ فتصبح أكثر توثُّبًا ‏للمعرفة والتمسُّك بإنسانيتك، حيث يلعب على مشاعرك المرهَفة للغاية، لا العادية.‏

ففي نصوص الكاتب مثلًا: “قبل أن يعرف البحر اسمه” و”ألف جناح للعالم” و”فاصل ‏للدهشة” و”لا تمت قبل أن تحب” و”مزاج حر” و”غذاء في بيت الطباخة” وآخِر نصوصه ‏‏”حدَث في شارعي المفضَّل”، تجد حكاياتٍ وشخصياتٍ وأجواءَ وطقوسًا مخلَّقة في مخيِّلته؛ ‏بمعنى أنه لا يحاكي الواقع، لكننا في الحقيقة نكتشف أنه يحاكيه بطريقته، بأسلوبه ‏الفني، لا يجسد الشخصيات ولا أحداثها؛ لكنه في الحقيقة يجسدها ويصِفها في مناطقها ‏البراقة الإنسانية، تلك التي يريد إبرازها، لا يقترب من القضايا التي تتوالَى على يومياتنا، ‏لكنه شديد الاقتراب منها، ومن أدق تفاصيل حياة البَشر.‏

يوهمك الفخراني في حكْي نصوصه بالعادية والسهولة، لكن تكتشف أن للسرد أبعادًا ‏متعددة، أبعادًا فكرية وإنسانية شديدة الاتساع، المبهر بالفعل هو هذا القدْر من التسامح ‏مع العالَم والأقدار. تقول المرأة “الأرضية”، في نَصه “حدَث في شارعي المفضَّل”، بعد أن ‏صارت الكائن الوحيد على البقعة الصغيرة، التي تبقَّت من الأرض: “لماذا أنا من نجوت؟ ‏نظرت إلى صورتي في مرآة التسريحة، لم أكن أسأل بشكل حقيقي، ولا أريد إجابة، ظَهَر ‏السؤال نفسه خفيفًا، بلا دراما، من الطبيعي أن يظهر، لست أنا من يسأل، هو السؤال ‏يعبِّر عن وجوده، لم أتوقف عنده كثيرًا مع تفهُّمي لرغبته في الحضور، لا دراما..” 86، ‏‏87‏

وفي نَصه “غداء في بيت الطبَّاخة” يتناول الفخراني قدْرَ الفظائع والدمار البشري، الذي ‏ينتُج عن الحروب؛ أي أنه يعالِج الحدَث الأكثر حضورًا في لحظتنا الراهنة، لكن لن تجد ‏في النَّص أيَّ تفصيلة من الخطابات، التي ترِد في الحروب، التي نعيش أجواءها الآن، ‏دون ذِكرٍ لتفاصيل صراع حرب محدَّدة، يتحدث الفخراني عن مطلَق الحرب، الحرب من ‏منظور إنساني، يثمِّن الحياة، ويرفض الموت والدمار.‏

في روايته “حدَث في شارعي المفضَّل”، حيث يدور العمل عن نهاية الأرض، وكيف ‏تعامَل معها الإنسان، بما لا يليق، ولم يثمِّن الكنزَ الذي يعيش عليه، فكلنا يلمس ويقرأ ‏التغيرات المناخية الأخيرة، والاحتباس الحراري، وثُقب الأزون، وذوبان الثلوج، والتصحر، ‏وغيره مما يتحدث عنه العلماء والمتخصصون، لكن لن تجد مفردة واحدة من هذه ‏المظاهر في سردية الكاتب، كأنه يأنف المتداوَلَ من خطابات، ويرى أن أرحب خصائص ‏الفن وميزاته أن يضعك في المساحات الإنسانية المطلَقة، فدون أن يقترب من تبعات كل ‏هذه المظاهر بشكل مباشر، ودون أن تَرِد مفردة واحدة تقترب من الواقع اليومي لهذه ‏القضية، يحكي عن فتاة أرضية، لها رائحة الأرض، تعشق الزراعة والأشجار والنباتات، ‏وأخيها الرسام الماهر، الموهوب السهل يواجهان معًا رحيل الأرض، تقول الأرضية ‏الساردة: “ما يحدُث ليس حرائق ولا زلازل ولا ذوبانًا للجليد، ولا براكين ولا فيضانات ولا ‏إعصارًا ولا ارتفاعًا شديدًا في درجات الحرارة، ولا انخفاضًا، … لكن هذه المَرَّة الأرض ‏نفسها ترحل، تتناقص، تذهب، تختفي، ومعها هذه المَرَّة تتناقص الأماكن وترحل وتختفي، ‏الأرض بذاتها تقرِّر الرحيل، … هل كانت تحتاج مِنَّا، فقط بعض اللطف؟” 45، 46.‏

يقول الفخراني في أحد حواراته: أردت أن أكتب عن الحب، لكنني لم أكن أريد أن أكرر ‏قصص الحب التي كُتبت كثيرًا من قبْل، كما أنني رغبت في سرْد قصة لا شبيهَ لها، لذا ‏كتبت “لا تمُت قبْل أن تحب”. وفيها سيجد القارئ رواية شخصيات، تُكتنز بداخلها مشاعرَ ‏عميقةً، لكنها غير محدَّدة، ومعانيَ وتفصيلاتٍ، مشاهدَ تحدُث، لكنها لا تكتمل، حيث لا ‏تحقِّق الأقدار لقاءً بين البطلَين؛ لعائق في كل مَرة، ولا يتم التواصل الغريب إلا في نهاية ‏العمل في موقف درامي عميق.‏

وتضع عنوانات روايات (محمد الفخراني) القارئ في مساحات ملتبسة، مناطقَ مراوغة، ‏توحي لك منذ البداية بإشارة، فيأتي السرد ليأخذَك إلى عالَمٍ آخَر، وعلى القارئ أن ‏يكتشف هذه العوالمَ المخلَّقة المخالفة للتوقعات، فكلَّما توغَّل في رواية “مزاج حُر”، على ‏سبيل المثال؛ كلَّما أيقن أنه بإمكاننا أن نرى الحياة من مناظيرَ مختلفةٍ تمامًا عمَّا عهِدنا.‏

وتضعك استهلالات نصوص الفخراني – في الغالب – في مواجهة عالَمه المتفرد، الذي ‏سيقدِّمه مباشرة، فمنذ المشهد الأول سينتقل القارئ لأجوائه مباشرة، هذه الأجواء التي قد ‏تكون صادمة أو رومانسية، أو تقريرية، لكنه يستطيع أن يهيِّئ متلقي النَّص لأخْذة ‏مباغتة، فيستحوذ على الأذهان، ففي “حدَث في شارعي المفضَّل” هناك بيان سردي، ‏مكوَّن من سبْع جُمل تقريرية صادمة وغريبة، جُمل وعبارات متوالية، وَرَدَت منفردة منذ ‏الصفحة الأولى، ثم ينمو السرد؛ ليتكشف هذا العالَم الذي يجسده الكاتب، يقول:‏

‏” أنا آخِر من تبقَّى من البَشر.‏

أوصاني أكثر إنسان أحبه أن آكل قلبه.‏

الأصفر لوني المفضَّل.‏

أتنقل في العمر، أستيقظ من نومي؛ فأجد نفسي انتقلت من عمري عشْر سنوات مثلًا ‏للوراء، أو خَمْسًا للأمام.‏

أفضِّل المشْي على الطيران.‏

يمكنني الطيران لكنني لن أتكلم عن هذا الآن.‏

أعود بكم لأول كلامي: أنا آخِر من تبقَّى من البَشر

اختفى وجْه الأرض، لم يتبقَّ منه غير مساحة يقف عليها بيت طيني أعيش فيه، وحدي ‏لا إنسان أو حيوان أو طائر أو بحر أو نهر أو صحراء أو شارع.” 11‏

وباستهلال آخر في “غداء في بيت الطباخة”، يواجه القارئ صراعًا داميًا بين جنديَّين في ‏حرب ضروس بين فريقين مختلفَين، في خندق محدود المساحة، ويتقاتلان إلى أن يقيما ‏حوارًا.‏

لطريقة سرْد النَّص عند الروائي، وهنا أقصد بنْية حكْي العمل وتنوعه الثري، ففي كل ‏رواية لديه، تجد منحًى تجريبيًّا يتسق مع طريقة وزاوية تخليق العمل في المخيلة، فمثلا ‏قد يشعر القارئ في “غداء في بيت الطباخة” أن الرواية بوليفونية؛ أيْ رواية أصوات، ‏حتى أنه قد يُنطِق الحربَ ذاتها، ويفرِد لها فقراتٍ للتحدث، وتعبِّر عن نفسها من منظور ‏مختلِف، رغم أن العمل كله قائم على تقنية “الراوي العليم”، الذي يسرد الأحداث من ‏مسافة فوقية، وفي الوقت ذاته تشعر أن النَّص في الأصل قائم على الحوارية الممتدة بين ‏شخصيتَي السردية.‏

في رواية “حدَث في شارعي المفضَّل” تتجسد الساردة امرأة، وتخاطب الرسام الموهوب، ‏تخاطب البَشر قاطبة، وتكتب للأرض والحياة، المرأة التي احتوت كل النساء بكل ‏أعمارهن، تقول: “غسلت الزيتون الذي جمعته أمس بماء المضخة، وفرشته كله في مدار ‏الرحى، وقفت عند الذراع الحديدية المثبتة بالثقب في منتصف الرحى، وأفكر، أتساءل، ‏هل فعلتها من قبْل؟ هل درت بهذه قبل الآن؟ رأيت بداخلي امرأة ثمانينية تدور بهذه ‏الرحى تحديدًا، ورأيت امرأة سبعينية تدور بها، وامرأة ستينية، وخمسينية، وأربيعينية، ‏وثلاثينية، وكلهن يغنين مبتسمات!”138 هذه المرأة التي تؤمن أن نطْق وكتابة ‏الموجودات والأماكن والمدن على الكرة الأرضية قد تعيدها ثانية إلى الوجود؛ تقول: “هل ‏يمكنني فعلا أن أحفظ داخل رأسي مكان كل بلد ومدينة وقرية وبحر ونهر وشارع؟ لم لا؟ ‏أنا أحمل ذاكرة كل البَشر.. كلهم بداخلي.”144‏

ينسِّق الروائي القسم الأول من النَّص، ويقسِّمه إلى فصول صغيرة، بعد كل فصل هناك ‏عنوان متكرر لفصل صغير بعنوان “ابتسامة سهلة”، يليه أربعة أقسام أخرى، لا يتبع فيها ‏هذا التقسيم.‏

تنساب اللغة السهلة في نصوص محمد الفخراني كأنها لغة تحنو على قارئها، حيث ‏تتناوَل العالَم من نزعة للرومانسية، الرومانسية التي أقصدها هنا تتنافى مع ترهل ‏المشاعر، أو سذاجتها، لكنها لغة تُعلي من إنسانية البَشر، تلعب على إذكاء الرُّقي ‏والتسامح البَشري مع الآخرين والعالَم، تقول الأرضية – في نَص “حدَث في شارعي ‏المفضَّل” – وهي تخاطب أخيها: “هل تعرف كم أحبك؟ ترسم لي صوت سريان الماء في ‏باطن الأرض، وصوت جذور النباتات التي تشرب، وترسم لي صوت ملامسة نور القمر ‏لأوراق الزرع، ولا أسأل أو أتعجب كيف يمكنك أن ترسم صوتًا، يا موهوب.”30‏

ونستكمل بالمقال القادم.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى