عربي ودولي

أماني فؤاد تقدم دراسة لسرديات الحروب والنزاعات

أستاذ/ حسن عبد الموجود

الدكتورة أماني فؤاد واحدة من النقاد الجادين، تعمل منذ سنوات طويلة على مشروعٍ يجمع بين النقد النظري والتطبيقي، حيث نشرت عددًا كبيرًا من الدراسات الرصينة حول أعمال مصرية وعربية، مضيئة رؤية الكتَّاب وهندستهم التقنية، سواء ما يتعلق بالبناء أو اللغة أو الحبكة، لكنها إلى جانب ذلك تعمل أيضًا على مشاريع نوعية، إذ تنظم بعض الأعمال في خيطٍ مكونة ما يشبه العُقد، وتفاجئنا – كل فترة – بكتابٍ من هذه النوعية، مثل كتابها الأخير “سرديات الحروب والنزاعات” الذي شيَّدته على دراسة أعمال عربية تتناول الحروب والثورات وتبعاتها على الإنسان العربي وواقعه الصعب.

الكتاب ليس مجرد دراسة أو عدة دراسات عادية حول هذه الرواية أو تلك، لكنه أقرب إلى مرجعٍ يعرِّفك على أدب الحروب وماهيته وأنواعه وعناصره وأفكاره وتأثيراته وأبطاله وسروده وتنويعاته. وإذا كان الكتاب موجهًا بشكل أساسي للباحثين، لكن لغته وطريقة عرضه السلسة تجعله أيضًا مرجعًا للقراء العاديين، فبإمكانه أن يلفت انتباههم إلى أعمال مهمة فاتهم أن يقرأوها، وهذه ميزة أخرى من مميزاته.

وفي هذا العرض الموجز أحاول التقاط أهم الأفكار في الكتاب. تقول الدكتورة أماني فؤاد: إن المتأمل في المشهد السردي، خلال العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين، يجد أن النصوص السردية التي تعالج تجربة الثورات والحروب وما تسفر عنهما من نزاعات ومآسٍ إنسانية هي الكتابة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في لحظة السرد الراهنة، التي نعيشها الآن في الإقليم العربي وشمال إفريقيا، خاصة بعد الثورات التي سُمِّيت بالربيع العربي، الثورات التي لم تخلف ربيعًا في كثير من تجلياتها، بل أوجدت أنواعًا متعددة من جحيم الانقسامات والفوضى والطائفية والدمار والفقر والشتات بلا أوطان.

باتت الحروب والنزاعات، بحسب أماني فؤاد، عنصرًا مهيمنًا على النسق العام لمعظم النصوص الروائية، سواء كانت هي محور دراما النص أو أحد المحاور الفرعية أو المضمرة في الظلال وعلى أثرها وفاعليتها تتشكل أحداث النصوص ومصائر الشخصيات.

الناقدة وجدت، كما تقول، بعد القراءات المتسعة والشاملة، أن الثورات والحروب التي اجتاحت المنطقة كانت تحمل في عمقها الإنساني مستويات متعددة من الرفض الشامل لقيم المجتمعات واستنكار الظلم الواقع على الإنسان، وقد تجلى هذا بوضوح في الأعمال الروائية أكثر مما تجلى في هذه الثورات وشعاراتها.

وتلفت إلى أن مصطلح “أدب الحرب” ظهر مع الحرب العالمية الثانية، لكن لم يضع النقاد له تعريفًا محددًا إلا في مرحلة متأخرة، فهو لا يُعنى فقط بدراسة أحداث المعارك على جبهة القتال، وإنما يشمل كافة الأبعاد التي تقع تحت تأثير الواقع التاريخي الإنساني للحروب، وأطرافها والشعوب التي تكتوي بها، وقد ظهرت سرديات الحروب في الأدب العالمي منذ كتابة النصوص الأدبية الأولى، فالحرب هي القوة المهيمنة في أعمال الثقافات الإغريقية والرومانية والعبرانية كما هو الحال مع “إلياذة” هوميروس و”إلياذة” فيرجيل ونصوص الكتاب المقدس لدى العبرانيين، حتى الملحمة السومرية القديمة “جلجامش” تتضمن معركة ملحمية مع قوة معادية يجب هزيمتها.

وقد تطورت دراسة أدب الحرب تدريجيًا لتشمل دراسات النوع والأقليات ودراسات الصدامات المذهبية وتأثيرات الحرب على الجبهة الداخلية كما أدت هجمات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك بالإضافة إلى أعمال الإرهاب الأخرى في مصر وفلسطين وسوريا وغيرها إلى مجموعة جديدة من الأدبيات التي تتناول الحرب على الإرهاب، وقد أنتجت الحرب العالمية الأولى عددًا غير مسبوق من روايات الحرب، من كتَّاب جميع أطراف النزاع مثل رواية “تحت النار” التي كتبها الروائي والجندي الفرنسي هنري باربوس و”عاصفة الصلب” لإرنست جونجر و”الحرب الأهلية” لمايكل شارا و”د. زيفاجو” لبوريس باسترناك و”رواتب الجنود” لوليام فوكنر.

أماني فؤاد وضعت تعريفا لمفهوم “اللابطل” في رواية الحرب، وهو بطل منسحق، يشعر باللاجدوى، فرد تنهكه قوى دولية متعددة وفصائل وسلطات متصارعة داخل الوطن، كيان إنساني بلا قوام، لا يكترث أحد لموته أو حياته، ليومه أو غده، فقد اعتاد تلقي الحياة بصفعاتها وهو يتألم منكسرًا أو صامتًا وتتحكم الحروب أو الثورات في أقداره بأشكال مباشرة أو غير مباشرة فيفقد بيته وأمانه ومورد رزقه ويُبتلى بالجوع والفقر، وإن نجا من الموت ينزح إلى بلاد غريبة. تضرب أماني فؤاد المثل برواية “الموت عمل شاق” للروائي السوري الراحل خالد خليفة. تدور أحداثها حول موت عبد اللطيف سالم المعارض للنظام في بلده، ورغبة أولاده في الوفاء بوصيته ودفنه ببلدته بجوار أخته. يجسد عبد اللطيف سالم بطلاً في صورته التقليدية السابقة على الثورات والحروب. له رؤية وموقف، واختيار شكلي. كان باستطاعته ادعاء الفعل. يموت بعد فترة طويلة من الحصار والحب والعلاج. تتعفن جثته في رحلة دفنه وينحصر زمن الرواية في ثلاثة أيام لكن تمتد بنيتها الزمنية لسنوات طويلة، حيث تعتمد على الاسترجاعات الزمنية. ومنذ تسلم بلبل وأخوه وأخته جثة أبيهم من المستشفى تبدأ رحلة العذاب، فالجثة كانت مطلوبة لأكثر من فرع مخابرات ولذلك اعتقلوها لبعض الوقت إلى أن دفع الأبناء كل ما يحملونه ثمنًا للإفراج عنها وتكريمها بدفنها. وفي ظروف الحرب والتخوين والفساد تتفسخ الجثة وتتحلل وتنتشر رائحتها المنفرة. تعلق أماني مؤكدة أنه حين يتعفن الإنسان الذي جسد البطولة في عقود ماضية وتتعفن جثته ويضيق به الجميع تتشكل رمزية موت من ادعى أهمية بعض القيم والمواقف لكنه لم يسع إلى تحققها في الواقع.

تطرح أماني فكرة جديدة عن الراوي، وهو واحد من أهم عناصر العمل السردي، والعين التي ترى الوجود من حولها ثم تعيد صياغته ونقله عبر منظور خاص إلى المتلقي، كما تدفعه ليكون شريكًا.

وتقول إن هناك فرقًا واضحًا ينبغي التنبيه عليه بين الراوي والكاتب فالكاتب هو مؤلف النص وواضع اسمه على الغلاف وهو من يصنع إطارًا متخيلاً للسردية، منذ البداية إلى النهاية، وهو من يختار الشكل الذي على نحوه سيُروى النص، وأي تقنية للراوي سيختار، وهو ما سيؤثر على الرؤية وطريقة بنية العمل ومعماره.

وتظهر براعة الروائي، بحسب أماني، حين يستطيع القارئ الفصل بين الروائي والراوي، فالروائي هو الكاتب، خالق العالم التخييلي الواقعي، وهو من يحدد شكل الرواية وبنيتها وطريقة رواية الأحداث، ولا يظهر الروائي ظهورًا مباشرًا في نصه، أما الراوي فهو أسلوب صياغة القص وقناع من الأقنعة العديدة التي يتخفى وراءها الروائي عندما يقدم عمله فكل راوٍ يمثل قناعًا.

وتؤكد أن السمة الرئيسية لأدب الحروب هي التغيير الكامل في التصور الكلاسيكي لصورة العالم، فلم يعد المؤلفون حاملون للحقائق المطلقة والمفاهيم الجاهزة. لم يعد هناك رسل بمفهوم إصلاح العالم، وسلام البشرية، بل أظهروا كثيرًا من ملامح الواقع المرير.

وتضرب مثالاً برواية “سهر الورد” للكاتب السوري نضال الصالح، فهي بين التناول الواقعي للأحداث، والتناول الغرائبي الذي يعتمد على الطرح الفانتازي، حيث تدور حول فكرة الاختلاف الديني وتأثيره على الشخوص في علاقة الحب التي تنشأ بين طرفين معنيين بمنظومة قيمية تُعلي من أهمية الصدق والعمل والخبرات العلمية المعاصرة وترفض الانخراط في منظومة الفساد. تدور الأحداث حول قصة حب بين الدكتور يحيى والدكتورة ورد الصقال الباحثة الأنثربولوجية التي أوفدتها الدولة السورية إلى فرنسا لتنال أعلى الدرجات في تخصصها. أنجزت دراستها ثم رفضت كل العروض المغرية لتبقى هناك وآثرت العودة إلى وطنها لتجد نفسها – بسبب فكرها المعاصر المتجدد وإدانتها للفساد وغلبة المصالح واسترضاء ذوي الشأن – مستبعدة منبوذة فتلعن قرار عودتها إلى بلدها.

ورغم اختلاف الدين تجمع بينها وبين الدكتور يحيى عاطفة الحب وتشغلها الأفكار الكبرى والقضايا الوجودية ومقومات الانتماء إلى الهوية الواحدة وأخلاقهما ومبادئهما فيتخذان من سيرة الشيخ “السهروردي” رمز المحبة والتسامح دليلاً لهما ويتزوجان ثم تعصف بهما الفتن الطائفية والمطامع السياسية والحروب التي نشبت في حلب لغايات لا علاقة لها بجوهر تعليم الأديان، لكنها غواية السلطة السياسية بجيشها النظامي والفصائل والميليشيات الدينية وانتماءاتها لقوى دولية كبرى خارج الوطن، لما يعود على هذه الميليشيات من عطايا مادية والتمكين من بعض السلطات.

أيضًا فإن كتَّاب سرديات الحروب وما بعد الثورات، بحسب أماني، جعلوا من نصوصهم زمنًا مفتوحًا، لحظة سرد تتسع للعديد من الأزمنة خاصة وأن خيباتنا كثيرة وانكساراتنا فادحة. وتقول: “في الروايات التي قرأتها رصدت المدى المشرع على اتساعه للحظات زمنية يتكرر فيها التعثر والإحباط والخوف وإحكام سيطرتها على الإنسان”.

تعود لتضرب مثلاً هذه المرة برواية “فيلة سوداء بأحذية بيضاء” للكاتبة المصرية سلوى بكر التي تقسم فصولها الأربعة، وتختار لها مجموعة من التواريخ المفصلية ترصد أحداثًا جسامًا أثرت في تاريخ مصر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، كما ترصد تحولات المكان الجمالية أيضًا، وقد بدأتها بسنة 1968 حيث معجزة ظهور وتجلي العذراء السيدة مريم فوق القباب الرمادية لكنيسة العذراء الصغيرة في شارع طومان باي، التجلي الذي رآه حسام نوعًا من الخديعة أعدها عبد الناصر لإلهاء الناس بعد هزيمة 67.

تسرد أماني فؤاد كثيرا من الأفكار وتربطها بأعمال روائية مهمة يتناول بعضها الحروب بشكل مباشر، بينما يرصد غالبيتها تبعات الحروب على الناس والمجتمعات، وهي تبعات أسوأ من الرصاص والدانات والقنابل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى