في 15 أكتوبر من كل عام، تُحيي تونس ذكرى عيد الجلاء، اليوم الذي طُويت فيه صفحة من تاريخ الاستعمار الفرنسي بعد معركة طويلة وشاقة امتدت لعقود. في مثل هذا اليوم من عام 1963، تحررت تونس من آخر بقايا الاحتلال الفرنسي في بنزرت، إثر مقاومة بطولية سطرت فيها القوات الوطنية والمقاومون أروع مشاهد الصمود والتضحية. بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية، استطاع الأبطال أن يستعيدوا السيادة الكاملة لتونس، وكتبوا بدمائهم تاريخاً جديداً من الحرية والوطنية.
عيد الجلاء ليس مجرد تاريخ يمرّ في الروزنامة، بل هو ذكرى محفورة في قلوب كل تونسي. إنها لحظة استعادة الوطن لحريته وكرامته، بعد سنوات من الاستعمار الذي حاول محو الهوية الوطنية. في هذا اليوم الخالد، يتذكر التونسيون بطولات الأجداد الذين واجهوا العدو بصدور عارية، وبإيمان لا يتزعزع، ليكون النصر حليفهم. هؤلاء الذين قاوموا الظلم والاستعباد لم يكونوا فقط جنوداً يحملون السلاح، بل كانوا رموزاً للصمود والإرادة، نقلوا للتاريخ رسالة أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.
إن مشاهد البطولة التي صنعت مجد هذا اليوم تظل متجددة في ذاكرة الأجيال، تُروى للأبناء والأحفاد، ليبقى ذلك الشغف بالوطن حاضرًا في كل قلب ينبض بالانتماء. لا تزال تونس، بفضل تلك التضحيات، أرضاً تحيا على وقع الحرية، تستقبل كل يوم جديد بنبض متجدد، يعكس أمل الوطن وأصالة شعبه.
عندما يشرق صباح 15 أكتوبر، لا يُشرق فقط كشمس جديدة في السماء، بل كرمز حيّ لانتصار تونس على الاستعمار. إنه صوت الأمل الذي يتردد في وجدان كل تونسي، يدعو إلى التمسك بالقيم الوطنية، والاعتزاز بما تحقق من إنجازات بفضل جهود الأجداد. في هذا اليوم، تستعاد ذكريات الكفاح، وتُسترجع تلك اللحظات التي وقف فيها أبطال تونس في وجه القوى الاستعمارية بكل شجاعة وإقدام، حاملين راية الاستقلال والعزة.
تونس التي انتزعت حريتها في مواجهة الاستعمار تعلمنا أن السعادة والكرامة الوطنية لا تأتي هدية، بل تأتي بتضحيات عظيمة. إن ذكرى الجلاء هي شهادة حية على قدرة هذا الشعب على تجاوز الصعاب، وعلى إرادته الصلبة التي لا تنكسر، مهما اشتدت التحديات.
عيد الجلاء هو درس للأجيال الصاعدة؛ درس في التضحية، في حب الوطن، في أن الحرية هي أثمن ما يمتلكه الإنسان. إن هذه الذكرى العظيمة يجب أن تكون دافعاً للأجيال الجديدة لاستكمال مسيرة البناء والتقدم، بروح من الانتماء الصادق، والعمل الجاد لرفعة الوطن.
في هذا اليوم، ونحن نحيي ذكرى النصر، علينا أن نتذكر أن كل ما نعيشه من أمن واستقرار اليوم هو نتيجة لتلك التضحيات الجسام التي قدمها آباؤنا وأجدادنا. إن رسالتهم لنا واضحة: تونس لا تستحق منا إلا الأفضل، ولا يجب أن نرضى بأقل من أن نراها دائمًا قوية، مزدهرة، وحرة.
بين صفحات التاريخ، يظل 15 أكتوبر شاهداً على لحظة فارقة في حياة تونس. إنه يوم انتصار الحرية على الظلم، يوم يؤكد أن الشعب التونسي سيظل وفياً لوطنه، مهما كانت التحديات. وكما أشرقت شمس الحرية في ذلك اليوم المجيد من عام 1963، تشرق تونس في كل صباح بأمل جديد، تحمله الرياح القادمة من موانئ النصر.
عيد الجلاء ليس فقط احتفالًا بالماضي، بل هو أيضًا دعوة للنظر إلى المستقبل. إنه يوم نستلهم فيه عزيمة التحرير، ونؤكد أن تونس التي حاربت الظلم والانتهاكات ستظل شامخة، عصية على كل محاولات الإخضاع. اليوم، يقف كل تونسي في هذا العيد شامخًا، كما وقف أجداده قبل عقود، وعيونهم نحو المستقبل، حيث الأمل، التحدي، والبناء المستمر.
ختامًا، 15 أكتوبر، يوم من تاريخ المجد، وصوتٌ للحرية لا يخفت، وذكرى لبطولات لا تُنسى. عيد الجلاء سيظل منارة مضيئة في سماء تونس، يُحيي فينا حب الوطن، ويعيد إلى الأذهان أن الكرامة لا تُشترى، وأن الأرض التي سقَتها دماء الأبطال تستحق أن نبذل لأجلها كل غالٍ ونفيس.