دكتور صلاح سلام يكتب.. جيصة
تسجل أحد صفحات الذاكرة ذلك الرجل الاربعيني الذي كان دائما يحمل سبتا من الخوص كالذي تستخدمه ربات البيوت مربوطا في حبل ليتدلى من البلكونة لتبتاع ماتريد من البقال اسفل العمارة او توصيل مايريده احد الأبناء حتى لايتجشم تعب صعود السلالم حيث كان المصعد ترفا لايقدر عليه إلا أصحاب العمارات الضخمة ولم يكن في بلدتنا تلك الابنية والعمارات التي تستلزم ذلك… هو ذاك الرجل الذي عاش في مدينتي” العريش” قبل حرب ١٩٦٧ حيث كان يرتدي بنطال دائما مرفوع لما دون الركبة وطاقيه من الشبيكة يظهر منها شعره الاسود ويطلق لحيته قليلا على بشرته الداكنة وكان يقضي يومه مابين سوق المحاسنة وهو بوسط المدينة الذي تم تسميته على اسم عائلتي و سوق المركز وربما احيانا في سوق الخميس قرب الجبانة يحمل سبته والذي يستخدمه في نقل اي مشتروات لمن يقابله في السوق ويقوم بتوصيلها لمنزله بمقابل زهيد وغالبا ماكنت أرى هذا الرجل حافيا وكان اسم الشهرة “جيصة” والبعض كان يسميه عم إبراهيم وكان معروفا انه من النازحين من فلسطين المحتلة عقب نكبة ١٩٤٨ وباختصار كان الرجل يعمل حمالا ولا اعرف أين يسكن هل في احراش المدينة على اطرافها او في اكواخ واديها وقد كانت فانلته ذات اللون الكاكي ذات القماشتين الاغمق مطرزتان عند الكوع صيفا وهي نفسها يرتدي عليها جاكت غامق اللون قديم مقطوع الكتف شتاء على البنطال الاسود المشمور هم الزي الرسمي له…كان جيصة يجلس إلى جانب اي بائع يتسامر معه وقت العصر حيث تهدأ حركة البيع والشراء وتراه في كل مكان في نفس اليوم فهو يقسم وقته بين الأسواق….المهم ان هذا الرجل الذي لم نكن نعرف له عائلة ولااصل ولافصل اختفى بعد حرب يونية ١٩٦٧ولم يظهر ثانية…وكثرت الحكايات ..البعض قال انه رأه يرتدي بدلة عسكرية إسرائيلية برتبة ضابط أثناء الحرب مع مجموعة من جيش العدو وهذا معناه انه كان يقوم بمهمة استخباراتية ….وآخرين قالوا انه قتل أثناء الحرب وفريق ثالث قالوا انه عاد من حيث أتى….ولكني عندما تذكرته وملامحه التي لو أجرى موس الحلاقة عليها وخلع طاقيته سوف تعطي صورة لوجها وسيما واكيد لو تغيرت الثياب ستكون الصورة أوضح…لذلك لم استبعد الاحتمال الأول فلربما كان كذلك فكثير من الصهاينة يتحدثون العربية بطلاقة حيث ولدوا وتربوا في بعض البلدان العربية قبل أن يهاجروا إلى فلسطين أرض الميعاد كما يطلقون عليها….أحاديث مابعد الحرب وحكايات لاتنتهي ولكن لا احد يستطيع تأكيدها او حتى نفيها لكنها تبقى عالقة في الاذهان وتحمل عبرة وعظة ودعوة لليقظة والتفكر ومع اني وقتها اعتبرتها نوعا من الهذيان بعد الحرب وتخاريف تحت وطاة نيران المدافع وقصف الطائرات ولكن الذكرى داعبت خيالي مرة اخرى