إبداعات أدبية

دكتور أماني فؤاد تكتب.. الدراسة النقدية للرواية التي حصلت على البوكر العربية لعام ٢٠٢٣

 

سَرْدِيَّةُ الماءِ في “تغريبة القافر”‏

 

تبدأ سردية “تغريبة القافر” – الرواية الفائزة بجائزة الرواية العربية العالمية لسنة 2023، ‏للكاتـب (زهران القاسمي)، من سلطنة عُمان – بحادثة غرَقِ (مريم بنت حمد ود غانم) في ‏البئر، وموتها، الفتاة اليتيمة التي ربَّتْها خالتُها وعمَّاتُها الثلاث، (مريم) زوجة (عبد الله بن ‏جميل)، الماهرة في التطريز، التي انتابتها نوبات من الصداع الرهيب، الذي لا تخفُتْ ‏طَرَقاته إلا حين تُغطس رأسَها في المياه، المرأة التي يوم تغرق وتموت؛ يولد ابنها، بعد ‏أن شقَّت (كاذية) عمَّتُها بطْنَها؛ لتُخرِجَ الحيَّ من الميِّت، في بداية تشويقية غرائبية ‏للرواية، ترتفع فوق الواقع ولا تكترث إلا بمعايير الفن. ‏

تدور “سردية الماء” تلك في قرية “المسفاة”؛ إحدى القرى العُمانية، وتحكي قصة أحد ‏مقتفي أثَرِ الماء، الذي تستعين به القُرى في بحْثِها عن منابع المياه الجوفية. وترتبط حياة ‏‏”القافر” (سالم ابن عبد الله بن الجميل) منذ ولادته بالماء، فمنذ كان صغيرًا يقترب برأسه ‏من الأرض ويصيغ بأذنه، ثم ينطِقُ: “ماي ماي”، حين يسمع صوتها تتدفق بين ‏الصخور، أو في مسالك الأحجار والحصى، وبين الرمال، طُمر والده تحت قناة أحد ‏الأفلاج، حين انْهَارَ عليه سقفُها؛ ومات، وفي نهاية مفتوحة يبقى “القافر” سجينًا في قناة ‏أحد الأفلاج بقرية “الغبيرة” البعيدة عن زوجته وأهله وقريته، يَظَلُّ يقاوِم للبقاء حيًّا، ‏والأفلاج نظام لريِّ البساتين، مرتبط بالحياة القروية في عُمان ارتباطًا وثيقًا، وكم دارت ‏حولها الحكايات والأساطير، حتى أنهم قالوا إن النبيَّ سليمان وعُماله من الجنِّ هُم مَن ‏قاموا ببناء تلك الأفلاج‎.‎

وتُعد هذه الرواية استشرافًا ومعالَجة فنية لحروب الماء، التي يتوقَّعها الخبراء في ‏المستقبل، وتجسيدًا لسعي الإنسان الدائم وراء الماء، ويتلخَّص عمل القافر في معرفة أين ‏توجد المياه، وإعادة اكتشاف الأفلاج القديمة، التي طمَرتْها الرياحُ والرمال بفِعل الزمن، ثم ‏إعادة تجهيزها وتفعيلها للعمل مَرة ثانية، بعد الجفاف والقحط الذي يصيب القُرى، ‏والسردية في مُجملها ملحمة للماء، حيث أصل حياة كل الموجودات والبَشر، فالبنية الدالة ‏للنَّص رحلة البَشر وراء الماء، وكم يلاقون من مصاعب، وتغيير في المصائر للحصول ‏عليه.‏

كما تنشغل الرواية بالإشارة إلى أن لكلِّ إنسان ما يَنْدَهُهُ بهذا الوجود، هاجس مهيمن ‏يسيطر عليه، ومعنًى يهتم به، ويتنازعه بين منطقة سحرية ميتافيزيقية، وأُخرى قد تكون ‏منطقية مع تكوينه البَشري.‏

حضور الماءِ وسَمْتِه الطاغي

وتنسج وتكتب سردية “تغريبة القافر” وتقنياتها الفنية أيضًا بعوالِم الماء، وتعبيراته ‏ومفرداته، فحتى التشبيهات والصور – التي تأتي في الجُمل والعبارات – مغزولة بالماء ‏ومفرداته، يقول (الشيخ) معاتبًا (عبد الله الجميل): “هين غبت؟ الواحد يوم ما يبغاك؛ ‏يلقاك فِـ كُل مكان كما الرمل، ويوم يدوِّر عليك؛ تغيب كأنك قطرة ماي واتبخَّرت”، ويحكي ‏الراوي عن مشاعر “القافر” الوليدة لـ(نصرة بنت رمضان)، يقول: “بدأ يُنصت إلى ينبوع ‏ضئيل يسيل متدفقًا خَجِلًا في أعماقه، ينبوع ضئيل أنساه كلَّ الأصوات حوله.” كما يقول ‏‏(إبراهيم بن مهدي زوج آسيا)‏‎:‎‏ “كل حد يسقيه الله في ها الدنيا من روح إنسان ثاني، كل ‏حد عطشان الين يلقى لماه”. ويلف ساعده حول رقبتها، ويجذبها إليه بلُطف لتستكين ‏تحت كَتِفِه، ثم يقبِّلها ويختم مقولته: “أنتِ عطشي وأنتِ الماي.” كأن اللغةَ والمفرداتِ ‏والتراكيبَ تأخذ سَمْتَ المياه وانسيابها وتدفُّقها المريح للنفس.‏

كما تأتي طريقة بنية الأحداث والشخصيات في الرواية إعمالا لمقولة: “إنك لا تنزل نَفْس ‏النهر مَرَّتين”؛ فكثيرًا ما يبدأ القَصُّ حول بعض الشخصيات، وتتطوَّر الحكاية وتنساب ‏مثل جدول يتدفق، ثم لا تُستكمل، كأن دفقة سريان هذه الحكاية قد تلاشت وانتهت، مثل ‏حكاية (آسيا) وزوجها (إبراهيم)، التي لم تُستكمل بالنَّص.‏

وتتناسل الحكايات في هذا النَّص الروائي، كأنها موجات تعلو وترتفع، ثم ما تلبس أن ‏تضيع في المجموع، في بحر الماء، والفصول الاثنَي عشَر. والحكايات جميعها في ‏منطقة وُسطَى، ضمن روابط بَشرية يمكن أن تكون واقعية، وغرائبية في الوقت ذاته، ‏وتميل للأسْطَرة، وتتدفق الشخصيات وحكاياتها ضمن ضفيرة إنسانية شديدة العذوبة، ‏وشديدة التوجُّس أيضًا من كلام الناس واختلاقاتهم للحكايات والخرافات، لانشغالهم بحياة ‏الآخَرين لفترات، ثم النسيان سريعًا، والبحث عن حكايات أُخرى.‏

وتتعرَّض السردية في أكثر من موضع لكيفية صناعة الإشاعات، بذرتها الأولى، وكيف ‏تتكون، ثم تكبر وتتضخم؛ حتى تعيق حياة الأفراد والبَشر، وقد تُنهي حياتهم وتصيبهم ‏بالأضرار، وانعزال الحياة، وتجنُّب البَشر تمامًا لتنمُّرهم وسوء فهْمهم، يقول الراوي واصفًا ‏حال “القافر” حين اعتزل القرية، وصعد ليحفُر في الجبل؛ فاتَّهمه الناس بالجنون: “لكنه ‏يدرك أيضًا، أن كلَّ حكاية في القرية مهما كبرت؛ ستخبو ذات يوم، وأن حكايات أُخرى ‏ستأتي فتُنسي الناس وتشغلهم عن حكايته”. وهنا نتذكر قول نجيب محفوظ: “آفة حارتنا ‏النسيان.”‏

ولي أن أرصد هنا بعض ملامح الجَمال الذي يخلُقه الفن، فتلك العذوبة التي تصنعها ‏اللغة وتكويناتها البديعة، تكشف وتغازِل مناطقَ مخبوءةً في البَشر، فنتعرف من خلالها ‏على ذواتنا، على مناطقَ نستشعرها، لكن لا نستطيع التعبير عنها بتلك الصياغات، فالفن ‏يضيء كهوف نفوسنا ويزرع بها الأنوار.‏

ملحمية السرد في “تغريبة القافر”‏

ولهذه الرواية بعض خصائص الملاحم، حيث تعتمد على البداية بحَدَثٍ عظيم وغرائبي، ‏لا يخضع للمعطيات العلمية، الموت والحياة في اللحظة ذاتها، موت مريم غرقًا، ‏واستخراج ابنها حيًّا من جسدها، رغم مرور وقت على موتها، كما تعتمد على قدرات ‏البطل الخاصة، وسماعه لحركة الموجودات، التي لا يسمعها البَشر عادة، وبطولة القافر ‏في تتبُّع الماء، والشعور به، وسماع تدفُّقه، كما تتضمن السردية بعض النزوع ‏لميتافيزيقية الوعي بالحياة في هذه البيئة البدائية نسبيًّا، واعتمادها على الأساطير ‏والخرافات والحكايات الموروثة الغرائبية. كما أنها تقوم على تيمة الرحلة، الرحلة وراء ‏المياه، أصل الخصوبة، ورحلة البَشر في الحياة داخل عنصرَي المكان والزمان، والتفاعل ‏مع الجماعة التي تجسِّد بيئة الفرد.‏

يتجلَّى الزمن – في سردية الماء في “تغريبة القافر” – غائمًا وهلاميًّا، بلا أيِّ تحديد ‏زمني، لا يمكن التيقن هل الزمن في الماضي أم الحاضر، وذلك للبيئة الريفية المنعزِلة ‏الخاصة التي تدور فيها الأحداث، عدا أن هناك بعضَ التوقيتات الداخلية للشخوص، ولذا ‏تأتي السردية كأنها من زمن مُطلَق، نستشعر أحيانًا بأنه زمن لم تدرِكْه الحداثة ولا ‏التطور، أو أنه مُطلَق السعي في كل زمن إلى المياه. ورغم تحديد الأماكن والقُرى بدولة ‏سلطنة عُمان، إلا أننا نستشعر أن كل القُرى والمدن في هذا العالَم يمكن أن تنضوي ‏تحت قُرى وأمكنة هذه السردية، حتى الدول التي تجري بها الأنهار، فالماء أصل الحياة. ‏

فِقْهُ الواقع وتدفُّق الإيقاعات

وتتميز تلك السردية بالإيقاع السريع في الحكي، وطَيِّ الأحداث حتى الفادح منها، وكأن ‏الروائي يمرِّر الأحداث على البَشر، حتى حين تباغتهم بالفادح والقاسي منها، ويجعلهم ‏يخْطُون داخلها ويتحركون، تتلبسهم طواعية أو كرهًا، تترك بصماتِها عليهم، لكنهم لا ‏يتوقفون إلا لهنيهة، يُبرِز الروائي فِعلَ الزمن ومتغيراتِه وأحداثَه على الإنسان، وعليه أن ‏يستمر طيلة تمتُّعه بنبض الوجود.‏

في الرواية تتجسَّد النماذج النسائية أقرب إلى الطبيعة وفِقْهِ الواقع والحياة، ينتصرن ‏للحفاظ على الحياة، وأخْذ المبادرة دون لجاج، ودون انصياع لاعتبارات سوى الفطرة ‏والتعقل والإنسانية، يسعين للحفاظ على الحُب والمودة، وانتظار الغائب. فبداية من مريم ‏الغريقة، التي كانت تطرِّز الفساتين، حتى انتهاكها وضياعها الإنساني والنفسي بسبب ‏نوبات الصداع، ورحلات استحضار المياة من البئر، وهذه الأصوات التي ندهتها لتهوى ‏في مياه البئر، ظنًّا أنها تنهي طرقاتِ الصداع القاتل، كلهن فاعلات، محتفيات بإرادتهن ‏حتى لو خالفَتْ الأهلَ؛ مثل انتظار نصرة للقافر وغزْلها للصوف مخالَفة لأهلِها.‏

وتبدو شخصية كاذية من أجمل النماذج الورقية التي رسمها الروائي، حيث لم تلتفت سوى ‏للحياة التي لم تَزَلْ تنبض في بطن مريم الغريقة، لم تلتفت للَّجاج بين الشيخ (حامد بن ‏علي) شيخ الجامع، و(الشايب حميد بو عيون)، حول إصرار الشيخ أن تُدفن الغريقة مع ‏ابنها الذي يحيا في بطنها، واعتراض “بو عيون” على أن يُدفن الحيُّ مع أمه، وعدم ‏اقتناعه بأن هذا يمكن أن يكون شرعًا، يقول الراوي: “في خضم النزاع القائم، وغفلة ‏الناس، سَحَبَتْ كاذية بنت غانم سكينًا من حزام أحد الحاضرين، ورفعت ثوبَ الغريقة، ‏وشقَّت بطنَها، ثم أدخلت يديها لتُخرج الطفل من الرَّحِم، وما إن قطعَت حبْل المشيمة، ‏ورَفَعَت الطفل كما تفعل أيُّ قابلة متمرسة؛ حتى سمع الجميع بكاءه، وعندما انتبه الناس ‏إلى بكاء الرضيع؛ التفتوا إلى مصدر الصوت مندهشين، وابتسمت في وجوههم، ابتسمت ‏وسط الفجيعة، وردَّدت – وقد ملأت الدموع عينيها – محلاه.. صلاة محمد السلام.. ‏يُخرج الحيَّ من الميِّت.” ‏

بعد أن تنتزع (كاذية) الطفل من الموت، تلحق بها (آسيا)؛ جارتها، التي دفنت بنتها ‏الخامسة منذ يومين، شعرت بعد أن أرضعته أنه تعويض عن خَمْس فتيات تلدهن ويمُتن، ‏ترضعه وتشعر بمحبته، يقول السارد: “ألقمت حلمة ثديها فم الرضيع؛ فشعرت بعاطفة ‏قوية نحوه، وكأنها صارت أُمَّه مباشرة في تلك اللحظة، كان هناك شيء ينمو في قلبها ‏ويتفتح مثل زهرة بيضاء، ذات رائحة ذكية، فلم تشعر بالدموع وهي تنهمر من عينيها.” ‏في استكمال لفِقْه الواقع وانتصار الحياة والمحبة والعطاء، لا النكوص أو النزول الرأسي ‏في مجاهل إخفاقات الإنسان ورضوخه للأقدار.‏_

_____________

تنوُّع الشخصيات وعوالِمها في “تغريبة القافر”‏

ولِبنْيةِ الشخصيات في هذه السردية تنوُّع هائل، وثراء في حشْد نماذجَ نوعيةٍ من البَشر، ‏حيث يجسِّد كل منهم (كراكتر) أو نموذج يمكن أن يظَلَّ قائمًا في الذهن حتى بعد ‏الانتهاء من النَّص، وتتضمن بعض تلك الشخصيات صفاتِ الشخصيات الملحمية، ‏كشخصية (مريم) و(القافر سالم بن عبد الله الجميل)، و(آسيا)، و(كاذية)، و(غانم أبي ‏كاذية)، و(سلام وَدْ عامور الوعري)، وأُمِّه التي قتلها أبوه، واستطاع الكاتب أن يوجِدَ لكل ‏شخصية من شخصياته عالَمَها الإنساني الخاص، بجانبها الفطري الذي يحتفي ‏بالخرافات، وبنيتها النفسية الخاصة، وآثار الزمن وأحداثه عليها، استطاع أن يوجِد لكل ‏منهم – حتى من خلال عبارات مكثَّفة ومختزَلة تاريخه النفْسي والأُسري، يقول عن ‏‏(آسيا)، جارة (كاذية)، التي قامت بإرضاع (سالم)، ووجدت فيه سلواها النسبي، في حياة ‏ترَكَتها دون استكمال لمشاعر الأمومة، أو الأمان بعد أن سافر الزوج، وندهته المدينة: ‏‏”إذ إن حياتها صارت لا تُطاق بعد أن غادَرَتها طفلتها الخامسة، وقد كان حزنها يستغرق ‏شهورًا من الصمت، كلما توفِّيت ابنة من بناتها، فلا تتحدث مع أحد ولا تقوَى على النظر ‏إلى الوجوه. قبْل أشهر سافر زوجها إلى مسقْط وظَلَّ هناك ولم يعُدْ. سمعتْ أخبارَه من ‏العائدين إلى قُراهم، ولم تتعمق في السؤال عنه. بل اهتمت ببيتها وبالنخيل والمزروعات، ‏ودخلت في عُزلتها الصامتة. لقد اعتادت أن تمشي منكِّسة رأسها، وهي تقطع طُرُقات ‏القرية، واعتادت أن تُسرِع الخُطى كلَّما اقترب منها أحد، وأن تختار – كلَّما ذهبت إلى ‏البساتين – مكانًا كثيفَ الظلال لتجلس فيه، في بيتها كانت ترتقب صورته، تنتظر إدارته ‏زند المغلاق، وتُصغي؛ لعلَّها تسمعه يتكلم كلَّما سمعت حركة قُرب الباب.” ثم يستدعي ‏الكاتبُ ذكرياتِها معه في تكثيف وكنايات شديدة الدلالات، والعذوبة للسانه الجميل القادر ‏على صوغ لغة جاذبة ومعبِّرة. ‏

تقنية الحلم والبشارة

ومن التقنيات – التي تُسهم في بنية رواية “تغريبة القافر” – تقنية الأحلام، فلقد عانت ‏‏(مريم) قبْل وفاتها، وأثناء حمْلِها من طرْق قوي هائل برأسها، ونوبات صُداع بشِع، وتوالت ‏عليها الأحلام، يقول الراوي كانت: “تحلم بزندَين كبيرَين يحملان مطرقة ضخمة، ويهويان ‏بها على صخرة صماء.” لا تهدأ إلا إذا غطَّست رأسها في الماء، توالت النداءات في ‏رأسها، وأحلامها تدعوها للذهاب لبئر “طوى الاخطم”، يقول الراوي: “في الأيام الأخيرة ‏اختلف الحلم، صار هناك صوت يناديها من بئر عميقة لا قرار لها، فترى نفسها تهبط ‏بالحبْل حتى قعر البئر، وعندما تُدخل رأسها في الماء؛ تشفى من الصداع. تسمع الهمس ‏فيهدأ الضجيج في رأسها قليلًا، فتستسلم له وتتبعه، هكذا يجري الأمر في كل حلم حتى ‏تنزل إلى البئر، فيتحوَّل الهمس تدريجيًّا إلى أغنية تنبعث من صوت رقيق، يأتي من ‏الأعماق.”‏

كأنها منذورة للماء في البئر، ولن ترتاح آلام رأسها إلا إذا اتَّحدت معه، كأنها نداءات ‏الماء، وكأن (مريم) القربان الذي تَبِعَ صوت النداء، ومن ثم استجابت، ولذا ظَلَّت ‏الطبيعة تهَبُ المطر والماء والسيول لأكثر من خمسة عشر عامًا بعد وفاة (مريم)، في ‏احتفالية فرح بالقربان وعطاءات بلا نهاية من الطبيعة لمدة خمسة عشر عامًا، ولقد نجح ‏الكاتب في تصوير انهمار المطر وآثاره على القُرى، وكأنها جنان تخضرُّ وتُثمر، ورخاء ‏ونعيم ظلَّل القرية والقُرى من حولها، فمنذ سريان نعْش (مريم)؛ بدأ المطر الخفيف ينزل ‏من السماء، ثم ما لبث واشتد حتى ابتلَّت اللحَى، وبدأت السيول في الانهمار حتى أغرقت ‏نصف قبْرِها، يقول الراوي: “حُملت الجثة وأُنزلت ببطء، وزاد انهمار المطر، فكادت تفلت ‏من أيدي حامليها، وماعادوا يستطيعون الرؤية، وكأن السماء قد اندلقت بحرًا على المكان ‏في تلك الساعة.” (مريم) هي المرأة التي وَصَفها أهل القرية برضَى الرب عنها، حيث ‏كانت تلبيتها لدعوة الماء بُشرى خير على قريتها، وأهلها، والقُرى المجاورة لقريتها، يقول ‏الراوي: “انسكبت سحابة كاملة على المكان، وتدفَّقت السيول، كان الماء ينسكب من ‏السماء بلا رعود أو بروق، ولا رياح تصاحبه، لا شيء سوى ماء مسكوب على الأرض ‏والحياة.” صوَّر الكاتب هذا المطرَ ليس بوصفه ظاهرة طبيعية، قدْر تصوير أنه خيرٌ ‏خالص، هبة من السماء والطبيعة لتلك المرأة التي ندهتها المياه؛ فلبَّت نداءها. ولعل هذه ‏التيمة تذكِّرنا بعروس النيل في الحضارة المصرية القديمة.‏

ندَّاهة الخرافة

كما استطاع الكاتب التعبير عن ثقافة الخرافة والأساطير، التي تسيطر على وعي ‏المجموعة البَشرية في تلك البيئة، وسيطرتها على تلقِّي الناس للوجود في تلك القرية.‏

ففي هذه السردية يتبدَّى تناسُل حكايات بَشرية كلها تمت للغرابة والعجائبية، فأهل “تحت ‏الأرض” هم من يكلِّمون (سالم)، وهو بدوره يستمع إليهم، وينقل معارفهم، وجميعها تركز ‏على معنًى مهِمٍّ فجميعنا بشكل أو آخَر تندهه بعض الأصوات أو الأشياء أو المعاني، ‏فتغيِّر من حيواتنا، وتأخذها في مسار مخالِف لما كانت عليه، هذه النداءات قد تكون ‏بفِعل التغيرات البَشرية الطبيعية، كالموت وما تصاب به النفوس من آلام الفقد، أو بعض ‏المرض النفسي، فحين مات والد (غانم) أبو (كاذية)؛ خرَج أبوها بطبْل “الرحماني”، الذي ‏حذَّره منه أبوه، وقال له لا تنظر إليها ولا تقترب منها، حين كانت معلَّقة على الحائط، ‏يصِف الراوي (غانم) أبا (كاذية) بعد أن دفن والده: “عاد إلى البيت حزينًا صامتًا، وجلس ‏قبالة الطبْل المعلَّق، ظَلَّ ينظر إليه أيامًا وأيامًا، كان خلالها يسمع طَرَقاتِه في داخله، ‏يرتجف صدره، وتناديه: “تعالَ”.” وهناك ندَّاهة المُدن، حيث بعض التطور والرفاهة، مثلما ‏حَدَث مع زوج (آسيا) الذي ندهته العاصمة مسقْط؛ فتَرَك زوجته وأرضَه ورَحَل، وهو ما ‏يستدعي إلى الأذهان رواية “النداهة” ليوسف إدريس، و(مريم) التي ندَهَتْها المياه، ‏وصوَّرت لها التخلُّص من الآلام بالغرق في الماء، و”القافر” الذي وجَّهت حركتَه المياهُ، ‏وندهته طيلة حياته، و(سلام ود عامور الوعري) ندهته العُزلة، بعد أن قَتَل أبوه أُمَّه، ‏وأحبَّ (كاذية) ولم يقتربا أبدًا. ‏

اللغة في سردية “تغريبة القافر”‏

كيف يُشعرك النَّص بخصوصية عالَمه، وباختلافه، باستغراقه في المحلية، وصعوده من ‏تلك الخصوصية ليرتفع إلى الهَمِّ الإنساني العام؟

أعتقد أن أول العتبات وأخَصَّها هي لُغته الخاصة، تلك التي تحمل في تجاويفها قصدية ‏الروائي العميقة، فلقد استطاعت اللغة – في نَصِّ “تغريبة القافر” – نقْل القارئ ‏لخصوصية هذه البيئة العُمانية، حيث قرية صغيرة تقع على حافة الجبل مع سهل متدرِّج ‏المستويات، لغة تنقلك لحالة الكفاف من العيش، وضِيق حال المكان وقسوته، لعالَم كل ‏فرد، وهاجسه، بداية من حياة سالم بن عبد الله “القافر”، الشخصية الرئيسة في الرواية إلى ‏الشخصيات الثانوية.‏

فمن خلال تلك المفردات الخارجة من أفواه البَشر، ومن وصْف الأحداث وهموم الناس ‏وتطلعاتهم؛ يتبيَّن القاريء الطقس الخاص للنَّص، فيصف الراوي منذ البداية عالَم القرية ‏فيقول: “من ظهيرة حارقة الريح الغربية بصفيرها تهبُّ ساخنة لتلفح الوجوه وتعصف ‏بسيقان الشجر.” يوحي الكاتب بطبيعة البيئة المكانية، وجغرافيتها الخاصة، طبيعتها التي ‏قد تتشابه مع أماكن أخرى، لكن تظَلُّ لها طابع تفاعُل الناس مع المكان في هذا الحيز ‏الجغرافي القاسي، يُشعرك النَّص أيضًا بهذه الخصوصية حين ينقل معالم هُوَية ‏شخصيات النَّص وطبيعة ثقافتهم، واهتماماتهم، بعوالِم معتقداتهم، بمَيْلهم للأساطير ‏وتفسير الأحداث بطريقة ميتافيزيقية، وهو ما فعله (زهران القاسمى) مع قرية “القافر”، هذا ‏بالإضافة للجانب المعلوماتي الذي أحاط به الكاتب حول أنواع التربة وطبيعة المياه في ‏كل نوع، ومسمياتها، وكيفية مساراتها في تلك البقعة من سلطنة عُمان.‏

وتتبدى بعض الأسماء مثل “القافر” و”الملاق” مُحيرة، فالقافر من المكان القفر، وهو ضد ‏ما يجلبه (سالم) دومًا من مياه وخصب في الطبيعة، وهي عادة العرب في النطق ‏بمسميات ضد الحقائق، أيضًا يأتي اسم الملاق من التملُّق، وهذا لأن لـ(إبراهيم) لسانًا ‏ناعمًا يستطيع تخيُّر المفردات الجيدة، هذه الميزة تختلف تمامًا عن التملق، لكنها أيضًا ‏عادة العرب في المبالغة.‏

ورغم حُسن نسْج هذا العمل وريادته في اجتياز مناطق غير مطروقة في البنية الروائية، ‏وخصوصية هذا العالَم؛ فإنه يظل فضاء ضيقًا، تحكمه الخرافة والإشاعات ورجعية ‏الرؤى.‏

‏ ‏

تغريبة “القافر” وراويها

تعتمد سردية رواية “تغريبة القافر” على الراوي الفوقي العليم، الذي يقدِّم للأحداث كأنه ‏يقف على مسرح، وكلَّما دخَل أحد الشخوص ضمن قَصِّ الأحداث؛ عرَّف به، وذَكَرَ ‏اسمَه، ومكانَ سَكَنِه، وعملَه، وقصَّ حول طبيعته الشخصية وعلاقاته بالمحيطين به، ‏مثلما فَعَل مع (عبد الله بن جميل) زوج (مريم) الغريقة، كما أنه في بعض الأحيان يذكُر ‏تاريخ الشخصية النفسي، والأُسري. ويتكفَّل قَصُّه للأحداث باستكمال استعراض شبكة ‏علاقات شخوص العمل، وتطورات حيواتهم وبنيتهم النفسية، كما فَعَل مع شخصية (سيف ‏بن محمود الوعري) رجُل المهام الصعبة؛ عرَّف به أولًا، وتستكمل فصولُ السردية تباعًا ‏التفاصيلَ.‏

وينوِّع السارد الراوي العليم في طرُق روايته للأحداث، فيشعر القارئ أحيانًا أنه لا يعلم، ‏لكنه استعان بأحد الأشخاص الذين يعرفون، يقول على سبيل المثال، وهو يصف بداية ‏تكوين قرية الغافيتين: “ويقول أحدهم ساردًا قصة القرية، مثلما سمعها من كبار السن: ‏‏”كان هناك راعٍ لديه قطيع كبير من الأغنام..” ويستكمل، تقنية السرد على هذا النحو في ‏الرواية تدخل ما يشبه نسبيًّا تقنية الأصوات، وهو ما يدفع بالحيوية في السرد وإيقاعه.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى