إبداعات أدبية

الدكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي يكتب.. حطمت مرآتي

 

كل الناس يحتفظون في بيوتهم بمرآة تتصدر جدرانها فلا غنى لهم عنها مطلقا، والنساء أكثرهم هوسا بها فهي تحتل مكان الصدارة في غرفة النوم والنظر فيها لتأمل جمالهن وأناقتهن وزينتهن لمدة طويلة عدة مرات في اليوم عادة متأصلة فيهن وغالبا ما يحتفظن بها ايضا في حقائبهن الخاصة يحملنها في كل مكان لنفس الغاية، أما الرجال فالبعض لديهم بعض الهوس بها ولكن بنسبة أقل بكثير من هوس النساء ولا سبيل للمقارنة بينهما إلا من كان يتشبه بالنساء، والبعض ينظر إليها كلما اقتضت الحاجة، والبعض مرة واحدة في اليوم على أقل تقدير لتفقد تسريحة شعرهم أو ترتيب هندامهم أو حلاقة لحاهم، والبعض ينظر فيها ليرى ما فعلت به السنين وما تركت من آثار على وجهه تنتهي هذه النظرة بالتحسر على أيام ولت وانقضت، أما أنا بالتأكيد كنت أمتلك مرأة كبقية الناس ولكنني في لحظة ما منذ مدة من الزمن حطمتها ولم أجلب غيرها، ليس لأنني لا أريد أن أرى تسريحة شعري فقد تساقط جله ولم يعد لي به غوى كسالف العمر في سن الشباب، وليس لأنني لا أريد أن أتفقد وجهي وارى ماذا فعلت بي السنين وما أحدثت في وجهي من الأخاديد والتجاعيد، وليس أيضا كي لا أرى آثار الكم الهائل من اللطمات والصفعات والكدمات التي كثيرا ما تعرضت لها ولا أزال اتعرض لها من الآخرين جلهم من المقربين مرارا وتكرارا، وكنت أتناساها أحيانا طمعا في أن يجنحوا جادة الصواب ولكن وللأسف يعاودونها مرات ومرات لطيبة قلبي أو قل لغبائي فلم يعد هذا مهم على أية حال، ولا لأنني لا أريد أن أرى ماذا أحدثت من شقاء وشحوب هذه الأيام العصيبة التي تسحقنا بلا رحمة كسحق الحبوب تحت حجر الرحى، ولكن في الحقيقة لسبب آخر جوهري كاد يسبب لي انفصاما في الشخصية، فقد بت أكره انعكاس صورتي على سطح المرآة وأصبحت أمقت ذاك الشخص الذي يتمثلني فيها، فكلما نظرت فيها ظهر لي متنطع يرمقني بنظرات الاستهزاء والملامة الجارحة ويكيل لي سيلا من التأنيب عن تصرفات وأفعال سابقة منها ما فعلته بإرادتي ومنها ما كنت مرغما على

الإتيان بها أو فعلها، ثم ما يلبث أن ينهال علي بكم هائل من الأسئلة المحرجة المضحكة الباكية فمنها ما أخجل من الإجابة عليها، ومنها لا أستطيع أو حتى أجرؤ على الإجابة عليها أو حتى مجرد التفكير بها أو ذكرها ، ومنها لا أجد لها جوابا رغم تفكيري بها ومحاولة البحث المضني، أطأطئ برأسي مغتما منكسرا مغمض العينين المغرغرتين بالدمع، أحاول أن أنظر إليه خلسة بطرف عيني فأراه يرمقني بنظرة حانقة ويطلب مني أن أرفع رأسي وانظر إليه منصتا لما يقول، وما أن أنظر إليه وقلبي ينفطر رعبا من هول ما سمعت وما قد أسمع، يعود ثانية موجه حديثة لي من جديد قائل لقد أصبحت كغيرك خرنقا سلبيا أو كعشبة هشة جافة على قارع الطريق، سيان وجودك من عدمه، فالحياة لا تليق بك ولا بأمثالك، أين خبرتك، أين تجاربك، أين هي أفكارك التي كنت تتبجح بها، أين كل تلك السنين، أين وأين وأين، كيف أمضيت عمرك، ماذا أعطتك كل تلك السنين من دروس وتجارب، حتى أنت ماذا أعطيتها. ابحث في مخزون ذاكرتي علني أجد ما أجيب به، أجد رأسي فارغا فقد توارى كل ما فيه خلف الأكمة الضبابية، ثم ادخل يدي في جعبتي لتخرج سوداء خالية الوفاض. يقهقه بصوت عال يصم أذني، وعلى غفلة منه وعلى الرغم من قهقهته الغاضبة انظر إليه لأرى دمعة تنهال من عينيه وهو يصرخ بي بلا توقف، فتنتابني حالة هستيرية لم أعهدها في نفسي من قبل واصرخ به بصوت عال كفا كفا كفا، ومن دون أدري وجهت له لكمة بقبضة يدي تهشمت منها المرآة وتناثرت قطعها هنا وهناك، وبعد أن هدأت نفسي وعدت إلى رشدي جمعت حطام تلك المرآة ورميت بها في سلة المهملات وأبقيت على قطعة صغيرة انظر فيها كل بضعة أيام وإلى ما أريد النظر إليه فقط، ومنذ ذلك الوقت ورغم ذلك لا زلت حتى الآن ومن حين لآخر اسمع ذلك الصراخ وأرى تلك النظرات الحانقة تلاحقني فأعمد إلى التلفاز ابحث فيه عن أغنية عاطفية أو قصة درامية عاطفية حزينة اسمح فيها للدموع أن تنهمر من عيوني وتسرح على خدي كما تشاء دون أن أردعها أو أمسحها، عسى أن تغسل ما علق في نفسي من ألم. 

الدكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى