دكتور صلاح سلام يكتب..البطاقة والكيس
عم سالم رجل نحيل البنية تكاد عظام قفصه الصدري تبرز من قميصه قصير القامة إلى حد ما وحكم الزمن عليه بالاشغال الشاقة حيث العربة الكارو والتي يجرها حمارا ليس بأفضل من قائده من الناحية البدنية وقد كان يقف عصرا بعربته على مقربة من مخازن اخوتي للدقيق والحبوب وبالات التبن حيث يكلفه بعض الزبائن بتوصيل مشترواتهم إلى المنازل نظير ليرات قليلة وذلك قبل أن تتحول العملة إلى الشيكل بعد الاحتلال الاسرائيلي لسيناء بسنوات قليلة…فقد كانت العربة الكارو هي وسيلة النقل المعتمدة وخاصة للطبقات الفقيرة والتي كانت تشكل ربما اكثر من ثمانين في المائة من السكان حيث كنت أرى العم سالم وآخرين يحملون النسوة وبعض كبار السن في الصباح الباكر إلى مقر المعونة المقدمة من هيئة كير في منطقة تقع على أطراف المدينة حيث كانت تشغلها قبل الاحتلال ثكنات عسكرية وهي مجموعة اكشاك وعنبر حيث يتم تخزين المواد الغذائية وكانت تسمى أرض النزل”بضم النون والزين” وربما لأنه كان يجاورها نزل الشباب والتي أصبحت الان أرض استاد العريش الرياضي وعادت أرض النزل الان لتصبح مقرا لأحد الجهات السيادبة…وفي تلك المنطقة كنت أرى المئات يصطفون في الشمس الحارقة ويقف بينهم موظف الشئون الاجتماعية لينادي على الاسم….فاطمة سليم سليمان..ايوة…فيرد البطاقة والكيس…محمد سليم سالم..ايوة …البطاقة والكيس…وهكذا ويستمر هذا المشهد على مدار اسبوع او اكثر شهريا حيث يتم توزيع الإعانة الشهرية من دقيق وسكر وسمن وزيت ولبن جاف “فكرز” واحيانا المربى والجنبة في عبوات من الستانلس…فتكون البطاقة للتعرف على الشخصية والكيس ليجمع فيه مايتم صرفه…ثم تعود قافلة العم سالم وعوض وبدران وآخرين محملة بالركاب وكل بجواره كيسه وكان يسمونها فيما بينهم بأنني صرفت الشئون…اي معونة الشئون الاجتماعية…فلم تكن الظروف الاقتصادية تسمح بركوب تاكسي وهم قلة معدودة وربما زادوا بعد الاحتلال نظرا لفتح الطريق إلى قطاع غزة والضفة الغربية أما قبل الاحتلال فكانت الندرة ومازلت اذكر تاكسي العم عثمان عروج الشهيرالأسود بالرفارف البيضاء ومكتوب على زجاجه الخلفي “فيفي” واكيد ليست فيفي عبده فلم تكون معروفة في ستينات القرن الماضي… فقد كان مخصص للزفات ويتقدمها دائما حاملا العريس والعروسة وخلفه بعض العربات الجرمبع وكم تمنيت أن اركبه فهو بالنسبة إلى بلدتنا كأنه يخت المحروسة للملك فاروق…ظلت كلمة البطاقة والكيس مثلا للتندر في اي تجمع حتى في المدرسة عندما ينادي الألفة او المدرس لتفقد الغياب وكنوع من المداعبة الضاحكة عندما ينادي اسماء معينة ويرد صاحبها يرد المدرس “البطاقة والكيس” فيضحك الجميع …ولم يهنأ عم سالم كثيرا ببؤسه وأيام الشقاء فقد كان حماره جامحا ذات صباح فاراد أن يقطع الطريق الرئيسي “شارع ٢٣ يوليو” وهو الشارع الاشهر في بلدتنا ذو الاتجاهين وقد كان لتوه يخرج من شارعنا الجانبي ليصطدم بسيارة قادمة تسير في اتجاه البحر أو محطة سكة حديد العريش والتي توقفت بعد الحرب..لتحدث المأساة من زجاج السيارة الذي تحطم والذي احدث جرحا قطعيا عميقا برقبة حمار عم سالم فاودى بحياته ….وبعد أيام وبعد أن أصبح العرش بلا راحلة…نعم فقد كانوا يطلقون هذا المسمى على العربة التي يجرها الحمار او الحصان…كنت أرى عم سالم حزينا يقف على مقربة من المخازن لعل وعسى أن يستدعيه احدهم ليساعده في حمل اشياء…. ولكن هيهات فقد ابى هذا الجسد النحيل أن يعيش طويلا بعد أن رحل رفيق كفاحه