لواء دكتور سمير فرج يكتب..هنري كيسنجر، والأطباق الساخنة
خلال زياراتي ومحاضراتي في الجامعات المصرية. وبعد أن انتهيت من أحد المحاضرات في أحد الكليات. تقدم لي أحد الطلبة بسؤال هل كان هجوم حماس يوم 7 من أكتوبر على إسرائيل يستحق كل هذه التكلفة من الخسائر التي تكبدها الشعب الفلسطيني الذي خسر حتى الآن 16الف شهيد والاف مفقودين تحت أنقاض المنازل المهدمة، وعدد 35الف جريح، وهذا الحجم الكبير من التدمير في البنية الأساسية في المياه والكهرباء والطرق والاتصالات والمستشفيات… إلى آخره، ثم هدم أكثر من 50% من مباني قطاع غزة، وتشريد الآلاف من الذين فقدوا منازلهم، وهم الآن يعيشون في برد الشتاء القارص تحت الخيام المهدمة، حتى الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وأصدقائهم. هل كل هذه المعاناة التي يعيشها الآلاف من شعب غزة الآن هل كانت تساوي قرار حماس بهجومها على إسرائيل؟
وكانت إجابتي، قد تكون الحسابات الرقمية صحيحة، ولكن القرار له جوانب اخرى واكملت دعني أحكي لك قصة حقيقية، عندما حدثت نكسة 67 في مصر، وظلت مصر تعيش ست سنوات في حرب الاستنزاف، والتي أطلق عليها البعض مرحلة اللا حرب واللا سلم، وكانت المظاهرات في الجامعات المصرية تطالب الرئيس السادات بالحرب، حتى تنتهي هذه الفترة من اللا سلم واللا حرب،
وخلال في هذه الفترة كان مستشار الرئيس السادات للأمن القومي حافظ إسماعيل موجودا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقابل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، هذا العملاق الذي أعتبره من اعظم من ظهر في العصر الحديث في مجال الدبلوماسية، حيث ظل لمدة 11 عام وزيرا للخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وهو الذي أخرج أمريكا من مستنقع فيتنام، وأدار الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، في هذه الفترة ببراعة، وهو الذي أحدث التقارب بين أمريكا والصين خلال فترة الستينات، وهو وزير الخارجية الوحيد في العالم. الذي نال جائزة نوبل السلام،
وبالنسبة لي كان أول كتاب قرأته ولخصته وأنا طالب في كلية كامبرلي الملكية في إنجلترا وأنا في العشرينات من عمري. كان كتابه الشهير كيف تبنى السياسة الخارجية الأمريكية. وأعتقد أن هذا الكتاب وضعني في بداية حياتي المهنية. وأنا أتعلم فنون الاستراتيجية والسياسة من كتاب هذا الثعلب السياسي العجوز الذي توفي الأسبوع الماضي عن عمر يناهز مائة عام.
ونعود لمقابلة حافظ إسماعيل مع كسنجر في امريكا، حيث دعاه إلى العشاء في نيويورك بعيدا عن اللقاءات الرسمية في أروقة وزارة الخارجية الأمريكية. ولقد بادر حافظ إسماعيل كيسنجر بسؤال. يا صديقي العزيز، وانت أستاذ الدبلوماسية والسياسة في العالم، هل ستظل مصر في حالة اللا سلم واللا حرب؟
وجاء الرد غريب وواقعي من كيسنجر ليقول له يا عزيزي لو طلبنا الطعام الآن ونحن في المطعم و جاء لك طبقك المفضل نيو يورك ستيك الشهير الذي طلبته، وهو بارد وليس ساخنا، هل ستأكله؟ فأجاب حافظ إسماعيل بالطبع لا. فقال له كيسنجر يا عزيزي، الطبق لا نقترب منه إلا وهو ساخن طالما الحالة عندكم على ضفاف القناة باردة، و ليس هناك سخونة، اطمئن لن يقترب أحد من المشكلة، وستظل كما هي. لذلك أعتقد أنه يجب أن تشتعل المنطقة لكن تسخن الوجبة على ضفاف قناة السويس حتى يقترب منها الجميع ويتم تداولها لكي نجد لها الحلول.
وأعتقد أن حافظ إسمعيل تلقى نصيحة الدبلوماسي العجوز، وعاد يبلغ للرئيس السادات برأي كيسنجر، وبالفعل بدأت مصر في التخطيط للتنفيذ الفعلي لبدء الحرب، حتى أن السادات أرسل حافظ إسماعيل مرة أخرى لمقابلة كيسنجر بعدها بشهور لكي يبلغه أن السادات يطلب منه التدخل لدى إسرائيل للوصول لحل سلمي للمشكلة، لأن مصر غير قادرة على القيام بحرب، لأن السوفييت لم يوافقوا على دعم مصر بالأسلحة الهجومية، فقرر السادات طرد الخبراء الروس من مصر والآن يطلب من كيسنجر التدخل للوصول لحل سلمي.
ولا شك إن كيسنجر ابتلع الطعم من السادات واتصل بجولدا مائير في نفس الليلة واخبرها أن السادات لن يهاجم إسرائيل، وبالفعل كانت أكبر خدعة قدمها كيسنجر لمصر.
ونعود إلى حرب غزة وإسرائيل، وأقول إنه طبقا لمقولة هنري كيسينجر، أن الطبق يجب أن يكون ساخنا لكي يتم تناوله، فإن هذه القضية التي استمرت 75 سنة حتى الآن، وظلت في حالة اللا سلم، واللا حرب لمدة 30 عام، ولم يعد يفكر المجتمع الدولي في الوصول إلى حل لها. حتى أن ترامب وافق على نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، ووافقت أمريكا على قرار إسرائيل بضم الجولان إليها، ونادى ترامب بحل القضية من خلال دولة واحدة،
وحاليا يتم بناء المستوطنات في الضفة الغربية بمعدل مستوطنة كل أربع شهور، وأعتقد أنه خلال السنوات القريبة القادمة سوف تتحول الضفة الغربية إلى قطاع إسرائيلي كامل، ليس للفلسطينيين فيه وجود.
لذلك جاءت معركة غزة الأخيرة، حيث قامت حماس بالهجوم على إسرائيل، لكي يتحول الجميع الآن، إلى التفكير بضرورة حل القضية الفلسطينية، أي أن القضية الفلسطينية تحولت إلى طبق ساخن على كل الموائد في كل بلاد العالم وبدأت أحداث غزة والتحليلات المنتظره للمشكلة، تتصدر الأخبار العالمية في كل دول العالم، حتى ان، المجتمع العالمي، نسى تماما الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت على دول العالم كله خاصة في النواحي الاقتصادية
لذلك أصبحت الأحداث المؤلمة للأطفال والسيدات، وهم تحت القصف الإسرائيلي في كل مدن غزة، قد أرعبت كل شعوب العالم، وحتى الشعب الأمريكي، وشاهدنا المظاهرات تسير في كل دول العالم. تطالب برفع الظلم عن النساء والأطفال في غزة،
من هنا عاد طبق غزة الساخن ليكون في اذهان جميع مواقف دول العالم وبين شعوبها، وأصبح الكل يتساءل كيف يمكن أن نصل إلى حل القضية الفلسطينية؟ لأن الطبق الساخن اصبح للجميع يدعو للدخول والوصول إلى حل لهذه المشكلة.
ورغم أن تكلفة هذا الطابق الساخن كانت غالية جدا من عدد الشهداء والجرحى وتدمير المدن والبنية الأساسية. وكان ذلك واضحا من خلال الزيارات المتكررة لكل رؤساء وقيادات دول العالم، فها هو الرئيس الأمريكي يزور إسرائيل، ووزير خارجيته، يزور المنطقة ثلاث مرات في أقل من شهرين، وكذلك رئيس المخابرات العامة CIA، والعديد من رؤساء الدول والوزراء، وبدأت تظهر في الأفق روايات مختلفة إلى ماذا بعد الحرب وما هي التوقعات، وبدأ التفكير في ضرورة حل المشكلة من خلال الدولتين ولذلك أعتقد أن الطبق الساخن الغزاوي صحيح كانت كلفته غاليه لكن أعتقد أن نتائجه سوف تكون عملية من أجل الوصول إلى حل نهائي للمشكلة الفلسطينية.