الكاتب أحمد رجب شلتوت يكتب..إطلالة مغايرة على مشروع عبدالرحمن بدوي الفلسفي
يمتلك المفكر الراحل الدكتور عبدالرحمن بدوي مشروع فلسفي متعدّد المستويات، فهو “الفيلسوف بالألف واللام، لأنه يمثّل بالنسبة إلى الفكر الفلسفي العربي المعاصر مفكرا استثنائيا متميزا متفردا”، هكذا يقول الدكتور أحمد عبدالحليم عطية في كتابه “الصوت والصدى.. رؤية جديدة في مشروع بدوي الفلسفي”، وقد اشتهر عبدالرحمن بدوي بأنه رائد الفلسفة الوجودية العربية.
لكن من يقول بذلك يتناسى جهود الرجل في دراسة التراث العربي الإسلامي، وخاصة الجانب المتعلق بالتصوف، أيضا لم يلتفت إلى جهوده في نقل التراث الفلسفي اليوناني إلى اللغة العربية وتقديمه عبر رؤية معاصرة. كما أن هؤلاء يتوقفون عند مرحلته الوجودية التي بدأت بدراسته “مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية”، وهي رسالة للماجستير ناقشها عام 1941، ورسالته للدكتوراه عام 1944، التي ناقشه فيها الدكتور طه حسين والشيخ مصطفي عبدالرازق. وكان موضوعها “الزمان الوجودي”، وقد نشرها فيما بعد في كتابه “خلاصة مذهبنا الوجودي”.
يتحدث أحمد عبدالحليم عطية أيضا في “الصوت والصدى” عن شخصية عبدالرحمن بدوى فيقول: “يمكن لنا إذا ما أردنا تفسيرا دقيقا لجوانب هذه الشخصية الخصبة العميقة المتناقضة، أن نتوقف عند الأسس الفلسفية التي اعتنقها بدوي، وهي النزعة الوجودية التي قدّم فيها إبداعاته، فتوجّهه الوجودي نابع من اهتمامه الكبير بفلسفة نيتشه وهيدغر، ولعل اهتمامات بدوي السياسية، التي ظهرت في مقالاته في مصر الفتاة عام 1935 هي التي أملت عليه الاهتمام بفلسفة نيتشه، حيث كان من أول مؤلفاته كتاب عن نيتشه، استجابة للثورة السياسية التي كان يموج بها الواقع المصري في ذلك الوقت”.
ويشير إلى أن بدوي كان صاحب مدرستين في الكتابة الفلسفية، الأولى يؤصل فيها لوجهات نظره في الفلسفة، وابتكار صيغ فلسفية تتوافق مع العصر الحديث، مع البحث في الجذور الفلسفية العربية والأوروبية. والثانية هي التأريخ للحراك الفلسفي على مدار التاريخ، خاصة الفلسفة الأوروبية وما مرت به من مراحل عاصفة. وهو في كلا المدرستين كان يهدف إلى التأمل والتفكير. وهو يرى أن أغلب الدراسات التي تناولت عبدالرحمن بدوي كانت مجرد قراءات خارجية، تناولت الرجل في شموليته، أو توقفت في أغلبها عند توجهاته الوجودية الأولى، أو التوجهات الإسلامية الأخيرة، بينما كتابه “الصوت والصدى” يطمح إلى تقديم قراءة مغايرة، يصفها صاحبها بأنها “داخلية” بمعنى أنها تتناول أعمال بدوي وفق تكوينه الخاص من جهة، ووفق الظروف التاريخية والاجتماعية التي قدّم من خلالها هذه الأعمال من جهة أخرى. وهو يقدّم رؤيته عبر مشهدين أو فصلين، الأول عن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ، ويسميه “الآخر في الذات” والثاني عن موقف بدوي من المستشرقين ويسميه “الذات في الآخر”، وفي التسميتين تفسير للعنوان، فالذات والآخر هما الصوت وصداه.
ويلاحظ عبدالحليم عطية أن اهتمام بدوي بالتراث اليوناني لا ينفصل عن اهتمامه بالحضارة العربية الإسلامية، فهو لا يدرسه في ذاته دراسة منعزلة عن علاقته القوية بهذه الحضارة التي ينتمي إليها الفيلسوف، بل في تفاعله معها، فالفضل في إحياء التراث اليوناني يرجع إلى الحضارة العربية الإسلامية.
وقد قدّم عبدالرحمن بدوي تحقيقات لنصوص هؤلاء الفلاسفة اعتمادا على الترجمات العربية القديمة، مقارناً إياها بالأصل اليوناني. وهو بذلك يقدّم شاهدا على اهتمام العرب بالتراث اليوناني. وانطلق المفكر من التأسيس في التاريخ إلى النظر في الفكر والروح، روح الحضارة العربية الإسلامية التي شُغل بها من خلال ما سماه “دراسات إسلامية”. فقد كان يرى أن الانفتاح الواسع الذي لا يحدّه شيء ولا يقف في سبيله أي تزمّت هو العامل الأكبر في ازدهار الحضارة الإسلامية.
ووفقا لكتاب “الصوت والصدى” فإن الفعل الفلسفي الذي مارسه عبدالرحمن بدوي في تناوله الفلسفة العربية الإسلامية في إطار حضاري أوسع هو تأسيس الفكر على الذات وإرجاع الحضارة العربية إلى نزعتها الإنسانية، هو محاولة لقراءة الفلسفة الإسلامية قراءة وجودية.
وهذا هو الجانب الذي عُرف به عبدالرحمن بدوي، ويتضح في كتابه “الإنسانية والوجودية في الفكر العربي”، والذي أعاد قراءة التصوّف الإسلامي باعتباره أوضح تعبير عن هذه النزعة. كما يظهر في تحقيقه كتاب “الإشارات الإلهية” لأبي حيان التوحيدي، حيث يقدّم التوحيدي باعتباره أديبا وجودياً من القرن الرابع الهجري.
وفي مقدّمة ترجمته لكتاب الفيلسوف والكاتب الألماني جوتة “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي”، يصوَّر عبدالرحمن بدوي ظاهرة الاغتراب الروحي تصويرا دقيقاً ويرى هذه الظاهرة ناتجة عن اغتراب الإنسان تجاه واقعه وعالمه ومجتمعه، عقب الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، وأثرت في الفكر الفلسفي في حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
ويرى الكتاب أن بدوي بدأ معجبا بالمستشرقين مشيدا بهم، وأورد أسبابا تؤيد هذا الزعم منها ترجماته لأعمال المستشرقين إلى العربية فكأن أبحاثه تتكامل مع هذه الترجمات، كما أنه استلهم أعمالهم في كتاباته وخاصة كراوس، وأيضا السمة الإنسانية التنويرية في طرح القضايا والتي تجلّت حتى في اختياره لعناوين كتبه، مثل “شخصيات قلقة في الإسلام” و”من تاريخ الإلحاد في الإسلام”، إلا أن ذلك مجرد انطباع مباشر قد لا يعبّر عن حقيقة قناعات الرجل، فمثلا الدراسات التي أوردها عن الإلحاد تتعلق بإنكار الفلاسفة للنبوة وليس للألوهية.
وقد تحوَّل عبدالرحمن بدوي من الانبهار والنقل وعرض آراء المستشرقين باعتبارهم “معلّمي الإنسانية.. أساتذتنا المستشرقين” إلى النقد والمقابلة. فهو أعاد النظر في الكثير من الأحكام التي أصدرها على المستشرقين، كما يظهر في “موسوعة المستشرقين”، إذ قام بتصحيح الأخطاء العلمية والتحليل الموضوعي لدراساتهم، وإدانة التوجهات السياسية والتعصّب الديني في كتاباتهم، والدفاع عن الهُوية الإسلامية وإعادة النظر فيما كتبوا. لكن هذا التحوّل لم يكن مفاجئا، بل له جذور بدت في نقده الموضوعي لكتابات المستشرقين الدينية والسياسية.