د.سمير المصري يكتب.. الغريب
الناس تحسدك دائماً على شيء لا يستحق الحسد ، لأن متاعهم هو سقوط متاعك ، حتى على الغربة يحسدونك، كأنّما التشرد مكسب .
عليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً ، لقد علّمتني الغربة أن أنظر إلى الورد كلما ضاقت نفسي ولكنها في نفس الوقت علمتني أن أبتعد عنه ، فإنّ الغربة في كل حرف منها حرقة قلب مشتاق .
لقد علمتني الغربة وما أقساه من تعليم أن تحس بأنك وحيد في وسط الكل فيه يرغبك ، لقد علّمتني وأفهمتني تلك القصة التي كانت تحكيها لي أمي وأنا طفل، عن الصّداقة فأدركت أنّ للصداقة حدود أبعد بكثير من مجرد كلمات تُقال. الغربة كربة كما يُقال ولكن فيها يتعلّم الإنسان المحال ويقدِّر قيمة تراب أرضه .
علّمتني الغربة أننا نملك أشياء كثيرة لكننا لا ندرك قيمتها. علمتني أن أكتم ألمي بداخلي وإن كانت ستفضحه عيوني، فلعلّ الإنسان الذي آلمني في تلك اللحظة ليس هو الإنسان الذي عرفته سنيناً .
علّمتني الغربة الكثير والكثير، وكان من بين ما علّمتني أنها أخبرتني من أنا . إنّ الملايين ممن ينوون الهجرة يكونوا قد هاجروا نفسياً لحظة تقديم الطلب، وهجروا الوطن على المستوى الشعوري، ويظلّ حالهم على هذا حتى لو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرحيل فتكون النتيجة الفعلية أننا نعيش في بلد فيه الملايين من المهاجرين بالنية أو الذين رحلوا من هنا بأرواحهم، ولا تزال أبدانهم تتحرك وسط الجموع كأنها أبدان الموتى الذين فقدوا أرواحهم، ولم يبق لديهم إلا الحلم الباهت بالرحيل النهائي.
يوصَف عالم اليوم بأنَّه عالم متغير ومليء بالمتناقضات والتطورات المتسارعة التي أنتجتها ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والعولمة، فلم يعد للحياة الإنسانية نظام ثابت وأصبح الإنسان دائم التغير، لكن لم تكن جميع التغيرات التي خضع لها الإنسان إيجابية؛ بل كان هناك الكثير من الأشياء السلبية التي أثرت فيه، ولا سيما في المجتمعات النامية المستهلكة والمقلِّدة للمجتمعات المتقدمة.
من مثل هذه الأشياء، الصراعات والخلافات وعالم مشحون بالحروب وعدم الراحة وفقدان الأمان، فوجد الإنسان نفسه يعيش في عالم عاجز عن تأمين حاجاته وتحقيق رغباته وأحلامه، ونتيجة لذلك، برزت لديه العديد من المشكلات النفسية كالقلق والتوتر والاكتئاب والإحباط والتدني في تقدير الذات وعدم الرغبة بتحمل المسؤولية.
لقد أصبح يجد نفسه عاجزاً عن تحملها في الأساس، ومن ثم يبدأ شيئاً فشيئاً بالانسحاب من نشاطات المجتمع والاتجاه إلى عزل نفسه بعيداً عن المجتمع وكل النشاطات المرتبطة، فالفرد يجد نفسه عاجزاً عن التعامل مع هذه التغيرات، وعندها يدخل فيما يسمى بالاغتراب النفسي.
لعلَّ مشكلة الاغتراب النفسي من أكثر المشكلات الاجتماعية والنفسية التي تشكل خطراً وتفتك بشبابنا اليوم، فهي مشكلة خطيرة تحمل معها العديد من الأزمات التي تعصف بالشباب كالإدمان على المخدرات والكحول، والسلوك العدواني، والتمرد على النظام في المجتمع وخرق القوانين، واللامبالاة وفقدان الشعور بالانتماء والولاء.
إنَّها تمثل أزمة هوية للفرد، لا سيما في المرحلة الجامعية التي تُعَدُّ مرحلة حساسة تتطلب التوافق معها بوصفها شرطاً لنجاح الطالب وإعداده بشكل جيد لمهنة الحياة؛ لذا سوف نتعرف ضمن هذا المقال إلى معنى الاغتراب النفسي وما هي أسبابه وأبعاده، وكيف نواجهه.
أولاً: ماذا نقصد بالاغتراب النفسي؟
يطلق الكثيرون على العالم الذي نعيش فيه اليوم بعالم الاغتراب؛ إذ أصبح الإنسان يعاني من عدم وضوح في الرؤية والوقوع ضحية التناقضات الكثيرة والازدواجية في المعايير؛ فمثلاً نراه يسمع عن ضرورة التمسك بعقيدته الدينية وبنفس الوقت هو مطالَب بأن يسلك سلوك العلمانية.
من الناحية العلمية يُعَدُّ “هيجل” (Hegel) أول من استخدم مصطلح الاغتراب النفسي في كتابه “ظاهريات الروح”، وقد جاء العديد من الباحثين من بعده، وتعددت المفاهيم الخاصة بالاغتراب إلا أنَّها جمعتها بعض العناصر، مثل العزلة والانطواء والبعد عن نشاطات المجتمع وفقدان الولاء والعجز عن التكيف مع الوسط الاجتماعي.
في اللغة العربية نقول “الاغتراب” بمعنى البعد عن الوطن الأم، وقد عرَّف معجم علم النفس المعاصر الاغتراب بأنَّه تغير في الوعي بالذات يتسم بفقدان الهوية وبتجربة شعورية مؤلمة بالاغتراب عن الأسرة والرفاق.
في معجم المعارف السيكولوجية عرَّف كل من “هاري” و”لامب” الاغتراب بأنَّه حالة أو عملية يكون فيها شيء ما مفقوداً أو غريباً عن الشخص الذي يمتلكه أصلاً.
أما “روبينز” (Robins)، فيرى الاغتراب بأنَّه “شعور بالانفصال عن خبراتنا الداخلية، أو الافتقار إلى الوعي بها؛ فلا يستطيع المغترب نفسياً أن يدرك من يكون أو بماذا يشعر، فذاته غريبة عنه ولا يشعر بما يحدث داخله”.
كذلك “بتروفسكي” (Petrovsky) يرى الاغتراب مصطلحاً يشير إلى العلاقات الحياتية لشخص ما مع العالم المحيط؛ إذ يظهر التناقض بين عمل الشخص ونشاطه وذاته والأفراد الآخرين وبين الشخص نفسه، ويتجلى التناقض في الاختلاف والرفض والعداء، ويتم التعبير عنه من خلال مشاعر العزلة والوحدة والرفض وفقدان الأنا والذات.
إذاً، في الاغتراب النفسي يعجز الفرد عن تأدية الدور المرسوم له أو الدور الذي يحدده لنفسه، كما يفشل الفرد بتحقيق علاقة ذات معنى بين جوانب ذاته أو بين ذاته والوسط الاجتماعي المحيط به.
كيف تتخلى عن غربتك النفسية وتصنع واقعك الذي يناسبك؟
هي عدم الالتزام بالضوابط الاجتماعية الموجودة، والتمرد على التقاليد، والخروج عن المألوف وكل ما هو شائع، وعدم المشاركة في السلوك الاجتماعي والعمل، ورفض وكراهية كل القيم الموجودة المحيطة بالفرد، فهو حالة من العنف والعدوان تجاه ثقافة وقيم المجتمع دونما سبب، فهو يرى القيم مجرد سلعة لمن يدفع أكثر.
تعني بُعد الفرد وانسحابه عن الاتجاهات السائدة في مجتمعه وكل ما يتعلق بنشاطاته وفقدان الشعور بالانتماء، فهي الانفصال عن ثقافة المجتمع ومعاييره وما يلحق بها من واجبات، فهو يشعر بالوحدة حتى إن كان موجوداً مع الجماعة، وكثيراً ما يتمنى لو كان يعيش وحيداً في هذا العالم بعيداً حتى عن أقرب الناس له.
تعني شعور الفرد بأنَّه فرد بلا حول ولا قوة، وغير قادر على التأثير في الأحداث الاجتماعية التي يخوضها، كما يعني أنَّه عاجز عن تقرير مصيره فهو لا يستطيع السيطرة على أفعاله وما يقوم به من تصرفات، أو اتخاذ القرارات الخاصة، أو التعبير عن رأيه بحرية، ولا يؤخذ برأيه أبداً، وغير قادر على التمسك بحقوقه؛ فهو شخص مسلوب الإرادة ورهن قوى خارجية تتحكم به وتقوده.
تعني مرحلة فقد الفرد للهدف والمعنى من الحياة، فهو يرى انعدام الغاية من هذا العالم الخالي من الحب من وجهة نظره، وكثيراً ما يتساءل عن المعنى من وجوده ولا يرى معنى من استمراره في الحياة.
تعني شعور الفرد بعدم قيمته بصفته إنساناً وعدم قدرته على التواصل مع نفسه، وأنَّ ذاته لا تساوي شيئاً؛ بل هو غريب عنها، وبأنَّه معدوم الفائدة ولا يعرف ماذا يريد وماذا تريد ذاته، فكأنَّه عبارة عن شخصين في شخص واحد كل منهما يسير في اتجاه مخالف للآخر.
تتعدد الأسباب التي تؤدي بالشباب إلى الشعور بالاغتراب النفسي وتتداخل مع بعضها، وعموماً يمكن حصرها في مجموعة أسباب نفسية واخري اجتماعية.
حين يصعب على الفرد تحقيق رغباته وما يطمح إليه ويواجه الصعوبات ويعجز عن تجاوزه ا، يصاحبه الإحباط الذي يرتبط بالشعور بخيبة الأمل .
إن التناقضات التي يعيشها الفرد بين ما يريد ويرغب وما يجب أن يكون، وبين الحاجات الملحة والمتعارضة مع بعضها يؤدي إلى الصراع الذي يقود إلى اضطرابات الشخصية .
فعندما تقف العقبات في وجه تحقيق ما يريده الفرد، تبقى حاجاته غير مشبعة، فهذا الحرمان يسبب اضطرابات الشخصية المختلفة وشعور الفرد بالاغتراب النفسي.
القلق نتيجة وجود حدث غير سار يؤثر في شعور الفرد بالطمأنينة، ويصب الفرد نتيجة حالة من عدم التركيز وعدم القدرة على الاسترخاء والراحة وشعور بالخشية والترقب لحدث سيئ واستحالة التمتع بأي شيء بالحياة.
فالحروب الدائرة والأزمات المفاجئة وحالات الصدمة التي يصاب بها الشباب، تقود جميعها إلى الاغتراب .
كما أن الضغوطات الداخلية المختلفة التي تصيب الفرد في سعيه نحو الكمال والمثالية تقود نفسها الي الاغتراب .
هيمنة التكنولوجيا الحديثة والتطور السريع الذي يشهده العالم وعدم القدرة على التأقلم والتوافق معه.
أساليب التنشئة الاجتماعية والاضطرابات التي تصيب الشخصية بسببها.
المعاناة من اتجاهات التعصب السائدة ، وسوء التوافق المهني وعدم توافق المهنة التي يختارها الشاب مع ميوله ورغباته ، ونقص التفاعل الاجتماعي وعدم التعاون بين أفراد المجتمع مع عدم وجود هدف يسترشد به ويحميه من الضياع وكذا الصعوبات المالية التي يواجهها الفرد وسوء أوضاعه الاقتصادية عموماً مع عدم التمسك بالقيم الأخلاقية واختلافها من جيل لآخر.
أفضل الطرق التي يمكن من خلالها مواجهة شعور الإنسان بالاغتراب هي مساعدته على تحقيق واستعادة شعوره بالانتماء يتم من خلال الوقوف على الأسباب النفسية والاجتماعية المسببة للاغتراب، والكشف عنها في وقت مبكر، والتعمق فيها والتعامل معها بجدية لحلها والرجوع إلى الذات ووحدة الشخصية وتعميق اتصالها بالواقع.
اعلم أنه هناك ضرورة هامةمن اجل تعزيز التواصل والتفاعل الاجتماعي ومواكبة التغيرات والمستجدات الحاصلة في مختلف المجالات وتصحيح الأوضاع الثقافية ضمن المجتمع بما يحقق احترام التقاليد والعادات، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والعمل على دعم الاستقرار السياسي وتنمية الشعور بالديمقراطية والقدرة على التعبير عن الرأي وتعزيز الولاء الوطني والاعتزاز بالوطن.
الخلاصة
في ظل تزايد الصراعات المحلية والعالمية وافتقاد العالم للإنسانية وتغير القيم وفقدها، سقط الشباب العربي ضحية الازدواجية وعدم الوضوح في الرؤية ، وأصبحوا يعانون من الاغتراب النفسي .
والاغتراب النفسي مفهوم عام يُستخدم ليشير إلى حالة ضعف الشخصية وانهيار وحدتها ، وتمزق مشاعر الانتماء إلى الجماعة ، وتعميق الفجوة بين الأفراد في المجتمع،
فالإنسان يعيش فيها غريباً عن نفسه وعن جماعته، ونظراً لأهمية المرحلة الجامعية في تشكُّل هوية الفرد وإعداده للحياة العملية ، فهي نقطة تحول هامة في مسيرة حياته؛ لذا يجب تضافر الجهود لإنقاذ الشباب وحمايتهم من خطر الوقوع في مشكلات الاغتراب.
الضياع النفسي ، تعويل على الوسيلة مع نسيان المصدر ،
تبدد الشخصيةو تعريفه، وأعراضه ، وأسبابه ، وطرق علاجه
كيف تتخلى عنها وتصنع واقعك الذي يناسبك ؟
غدآ صباح مصري جديد ،،،