دكتور أحمد محمد الشربيني يكتب.. كلثوميات كوكب الشرق في ضوء الدرس اللغوي
رحم الله ابن جنى الذي قال في كتابه الخصائص:” اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم والأصوات لدى الإنسان تتعلم بالاستماع والتحدث”
وبمرور الزمن تحول الاهتمام من المكتوب إلى المنطوق لاسيما الدراسات الصوتية ذلك أن الخطاب المنطوق أكثر تأثيرًا في المتلقي لما يحمله من خصائص إلقائية كالنبرات والنغمات والإيقاعات التي تجذب الانتباه وتترك أثرها في أذن السامع وهذا الأمر يصدق على قصيدة الفصحى فالشعر كَمانعرف( كلام موزون مقفى له معنى)والدرس اللغوى الحديث يجعل الشعر عبارة عن تراكيب لغوية تحمل دلالات صوتية تتحق من خلال الإلقاء ومن ثم الغناء أيضًا؛ لذا فلا نغالى إذا قلنا عن قناعة علميةلقد أسدت كوكب الشرق إلى اللغة العربية خدمات جليلة لاتقل أهمية عن دور سيبويه والخليل بن أحمد وابن منظور إذ استطاعت بكلثومياتها(قصائد الفصحى) التي غنتها الحفاظ على اللغة العربية في صقال ووجدان العقل الجمعي العربي فترى الرجل البسيط يترنم بكلمات أمير الشعراء في سلو قلبي وولد الهدى وكلمات شاعر النيل حافظ إبراهيم في مصر تتحدث عن نفسها وكلمات د. إبراهيم ناجي في الأطلال والدرس اللغوى المعاصر بمستوياته ينصف أم كلثوم أيما إنصاف كمايلي:
(١)صوتيًا امتازت بدرجة عالية من النقاء والقوة التي احتار فيها العلماء وكانت متمكنة في أدائها من مخارج الألفاظ بدقة متناهية فلاخلط بين الصوامط والصوائط والترقيق والتفخيم والهمس والجهر كما امتازت بالقدرة على التحكم في نبر الكلمة وتمثلهادلاليًا في ذهن المتلقى عبر الدلالة الصوتية والتطريز الصوتي مثل مطلع (الأطلال) وتناغم الأداء الصوتي مع اللحن الموسيقى ومن ثم التعبير عن الحالة النفسية للشاعر والتأثير في الجمهور…ففي موقف الفرحة والتفاؤل تلجأ للتطريز الصوتي الذي يعكس بدوره شعور الفرحة في أذن السامع وقلبه مثل أدائها للبيت القائل:
ومشينا في طريق مقمر
**تثب الفرحة فيه قبلنا
وتفسير ذلك علميًا نطالعه لدى العلامة الدكتور إبراهيم أنيس حيث يرى أن التنغيم والنغم كلاهما “مصطلحان متماثلان للدلالة على المنحى اللحني في سلسلة الكلام” أما موسيقى الكلام” فتدل على الظواهر الموسيقية التي تصاحب التركيب أثناء العملية النطقية ” وهذا ماكانت تحرص عليه سيدة الغناء العربي؛ إذا كانت درجات التنغيم لديها تتغير بتغير درجات الكلام المنطوق إرتفاعًا وانخفاضًا فنطالع في الأغنية الواحدة ذلك التنوع فقد تنخفض درجة التلوين الموسيقى في مطلع الأغنية لتسمع الأذن المرهفة تنغيمًا منخفضًاfalling ton
في حين ترتفع درجة التلوين الموسيقى وسط الأغنية فنحصل على تنغيم مرتفع rising tone مما يحدث طربًا في أذن المتلقي وتأثيرًا في وجدانه ويتمثل المعنى المراد من خلال ذلك التنغيم وهذا دأب أم كلثوم التي لم تغن قط وفق نغمة مستويةتبعث على الرتابة والملل بل تلجأ إلى تنويع درجات التنغيم وفقًا للمعنى والسياق العاطفي.
٢-نحويًا حافظت أم كلثوم على الضبط النحوي الصحيح للكلمات فتمثلت قواعدالإعراب على نحو تطبيقي في أغانيهاولعل ذلك مرده إلى سليقتها اللغوية جراء حفظها للقرآن الكريم في سن صغيرة
٣-معجميًا:اهتمت بوضوح الدلالة فكانت تنتقي القصائد التي تخلو من الألفاظ الموغلة في الغرابة أو العجمة؛ دليل ذلك ما ذكرته في مقال منشور بمجلة الجيل عام١٩٥٨حيث قالت((عندما كنت أغنى أغنية جديدة أشرحها للجمهور وأفسر معانيها ومضمونها لهم وعندما أتأكد أنها بالفعل وصلت إليهم أباشر التصرف فيها والترنم كيفما أشاء))
لذا لا عجب إذ رأينا سيدةالغناء تصدح بقصائد لأكثر من ثلاثين شاعرًا دون الاقتصار على عصر دون غيره بل نراها قد تنقلت في أبهاء الشعر العربي عبر العصور فغنت للقدماء مثل أبي فراس الحمداني والشريف الرضي وبكر بن النطاح وغنت لجيل الرواد في الشعر الحديث كأمير الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد رامي وعلى الجارم وطاهر أبو فاشا وكامل الشناوي وأحمد رامي
وصدحت لشعراء مسلمين ليسوا عربًا كعمر الخيام الفارسي ومحمد إقبال
الباكستاني كمايممت وجهتها نحو الشعراء العرب خارج مصر كالأمير عبد الله الفيصل ونزار قباني وجورج جرداق وأحمد العدواني
وأكبر دليل على انتقائها للقصيدة المغناة وفق معيار الوضوح الدلالي تمثله قصيدة ((أغدا ألقاك))التي صدحت بها لشاعر مغمور سوداني الجنسية كان يدرس في القاهرة وحيل بينه وبين حبيبته فرحل للسودان ولما جاءته بشارة موافقة أهل العروس في القاهرة سهر ليلته ولم ينم شوقًا للقاء محبوبته فكتب قصيدته ولم يمهله القدر حيث مات من فرط الفرح قبل شروق الشمس ولما وصلت قصته لسيدة الغناء آثرت أن تغنيها دون اكتراث بمكانة قائلها ومدى شهرته تكريمًا له وتفاعلاً مع كلماته التي تلامس الوجدان وتلهب إبداع الفنان.. فأضحى السوداني الهادي آدم حيًا بفضل سيدة الغناء وكأنه بات كعمر بن كلثوم شاعر القصيدة الواحدة الخالدة.
٤-دلاليًانلحظ أن كوكب الشرق استطاعت أن تتمثل نظرية السياق(Context Theory) بمستوياتها – لاشعوريًا – في معرض أدائها لقصائد الفصحى كما يلي:
(أ) السياق اللغوي: ويراد به استعمال الكلمة داخل نظام الجملة عندما تتساوق مع كلمات أخرى مما يكسبها معنى خاصًا محددًا وتمثل ذلك لدى كوكب الشرق من خلال اختيار المفردات التي لا إشكال فيها في ذهن المتلقي نحو استخدامها(نعم) بدلا من (بلي) في قول أبي فراس الحمداني:بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
**ولكن مثلي لا يزاع له سر!!
ومن المعروف نحويًا أنا بلى حرف جواب، يأتي بعد النفي فيجعله إثباتا
لذا فالصواب ما قاله الشاعر إذ سبق هذا البيت بقوله:
أما للهوى نهي عليك
ولا أمر؟!
لكن كوكب الشرق اختارت كلمة لا لبس فيها في سمع الجمهور دلاليًا ، هي نعم خلافًا للقاعدة النحوية لأنها ضحت بالخاصة(علماء النحو و دارسي اللغة) في سبيل وضوح الدلالة اللغوية في ذهن جمهور السامعين على اختلاف درجاتهم الثقافية.
(ب) -السياق العاطفي:الذي يحدد طبيعة استعمال الكلمات بين دلالتها الموضوعية التي تفيد العموم ودلالتها العاطفية التي تفيد الخصوص فيحدد درجة القوة والضعف في الانتقال مما يتطلب تأكيدًا أو مبالغة أو اعتدلاً ومن ثم تكون طريقة الأداء الصوتية قابلة لشحن المفردات بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية وهذا نراه جليًا في طريقة نطقها لكلمات نحو (الحب وسكارى ومثلنا)
في قصيدة الأطلال
وتكرارها للاستفهام(أغدًا ألقاك) في مطلع قصيدة الهادي آدم وفي رائعة محمد إقبال( حديث الروح)
نراها تعيد الأسلوب الشرطي
((إذا الإيمان ضاع فلا أمان))
أكثر من مرة بأداء مختلف يشحذ الهمم ويثير العاطفة الدينية ويستنهض مكامن التقوى في نفس المؤمن. كذلك تكرارها لكلمة(بغداد) في القصيدة الوطنية التي مطلعها بغداد يا قلعة الأسود.. تأكيدًا على عاطفة الفخر والاعتزاز بحضارة بلاد الرافدين وإرث حاضرة هارون الرشيد إبان عصور المجد والازدهار.
(ج) -السياق الحضاري والاجتماعي ويظهر في استعمال كلمات معينة في مستوى لغوي محدد ليكون علامة على انتماء عرقي أو ديني أوسياسي أو اجتماعي وقد حرصت كوكب الشرق على انتقاء القصائد ذات المفردات التي تتلاءم وحضارة المنطقة العربية وموروثها الفكري والثقافي والاجتماعي لاسيما العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الشرقي العربي وهذا يفسر لنا بجلاء رفضها طلب المبدع نزار قباني بأن تغني له قصيدة (اغضب)التي غنتها فيما بعد أصالة نصري… لقد ألقاها نزار بين يدي كوكب الشرق فلما سمعتها تعجبت وقالت:هل يجمل بي أنا كمرأة شرقية أن أقول لحبيبي : اذهب إذا أتعبك البقاء ، فالأرض فيها العطر والنساء ، اذهب إذا يومًا مللت مني ؟
بالطبع تلك إهانة للمرأة الحرة الأبية ، لن أقبل بهذا ، ولا يمكنني أن أصدح بمثل هذا الشعر؟!!
وهكذا راعت أم كلثوم بحسها اللغوى المرهف ووعيها الدلالي الفطري أن السياق الاجتماعي للكلمات يبرز سطوة الرجل الشرقي وعنفو انه في مقابل سماحة المرأة ورقتها وهذا ما يتعارض وقيمنا العربية الشرقية.
(د) سياق الموقف (سياق الحال) ويدل على العلاقات الزمانية والمكانية التي يجري فيها الكلام بما يتطلب مراعاة المقام وأفضل مثال على انتهاج كوكب الشرق ذلك المسلك الدلالي المتميز حرصها على اصطفاء أحد الحضور والغناء له بشكل خاص طوال الحفل دون أن يشعر أحد؛ وفي ذلك يقول أحمد رامي((لقد كانت أم كلثوم تغني فعلاً لشخص واحد إذ تختار من الجمهور ضيفًا ما تشعر تجاهه بالراحة النفسية فتغني له وكأنها تكلمه وتناجيه وذات مرة أبدعت في الأداء فلاحظت أنها تلقى ببصرها منتهي الصالة حيث الصف الأخير ولما سألتها قالت:إنني كنت أغنى لشخص ضرير فقررت أن تكون الأغنية له وحده!! ))
وفي رائعة أحمد رامي(اذكريني) التي مطلعها:
قد سقيت الحب ودي
ورعيت العمر عهدي
وبدا لي ما ألاقي
من تباريح الفراق
أحس رامي أنها تناجيه هو دون غيره!!
وهكذا يبرز الدرس اللغوى المعاصر أسباب تفرد تلك الظاهرة الغنائية العربية النادرة إذ تفوقت أم كلثوم صوتيًا وبرعت نحويًا وأبانت معجميًا وأبهرت دلاليًا وسياقيًا فلا عجب إذًا أن يطلق عليها النقاد والمتخصصون ألقابًا كُثرنحو:((سيدة الغناء العربي))
و((الجامعة العربية)) و((كوكب الشرق)) و((فنانة الشعب))
و((صاحبة العصمة))
دكتور/ أحمد محمد الشربيني
دكتوراة فى علم اللغة والدراسات السامية والشرقية