الكاتب أحمد رجب شلتوت يكتب..النساء أول من أسس الصالونات الأدبية العربية
ظاهرة “المجالس الأدبية” أو الصالونات الثقافية ظاهرة قديمة، ومنذ نشأتها وحتى منتصف القرن العشرين كانت تؤدي دورا ثقافيا وفكريا كبيرا، إلا أن تأثيرها اليوم قلّ كثيرا. ربما لأن التجمعات الافتراضية عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي قد تكون وسيلة تغني عن تلك التجمعات الواقعية، لكن مازالت هناك صالونات متواجدة وتؤدي دورها، فلا تكاد مدينة عربية كبيرة تخلو من صالون أو أكثر، مما دفع الباحثين إلى التنقيب في الظاهرة بحثا عن سر ديمومتها وحيويتها.
ومن نتاج هذا التنقيب كتاب ”الصالونات الأدبية في الوطن العربي” للباحث أحمد سيد آل برجل، وفيه يدرس ظاهرة الصالونات الأدبية ومنشأها. فتأكيدا على أهمية الصالون الأدبي ظاهرة حضارية يزعم كثيرون أن الصالون الأدبي ينتمي لحضاراتهم، فمنهم من يراه ظاهرة فرنسية مستندا إلى الاسم، وهناك من يرده إلى اليونان القديمة، أما المؤلف فيؤكد من خلال نظرة تاريخية أن الظاهرة عربية قديمة، ويرجعها إلى منتصف القرن الهجري الأول وإلى سيدة تدعى عمرة، يصفها بأنها امرأة ذات رأي حكيم وذوق سليم، كانت أول من دعا إلى مجلس أدبي.
نظرة تاريخية
يعود آل برجل في كتابه الصادر بالقاهرة عن دار المشارق، بالظاهرة نفسها وهي ”المجلس الأدبي” إلى الجاهلية، حيث كانت مجالس أشعار وأسمار وأخبار، وكانت الأسواق مكانا للتجارة وللمجالسة والنقاش، وأشهرها سوق عكاظ، ويذكر الكتاب أسواقا غيره مثل ”دومة الجندل” وسوق ”هجر”، الذي يقع مكانه في البحرين، وبعد ظهور الإسلام أصبحت مجالس دينية. ويرى الكتاب أن المسجد النبوي كان بمثابة أول المجالس الأدبية في الإسلام، ومنذ العصر الأموي بدأت المجالس تعود تدريجيا لمنحاها القديم، وقد عرف عن معاوية بن أبي سفيان حبه لسماع أخبار الأولين وللسجال بين القبائل، فغلبت على مجالسه قصص ما يسمى بأيام العرب، أما مجالس هارون الرشيد ومن بعده المأمون فكانت الأزهى والأزخر بالعلم والأدب. وهكذا خرجت الأسواق من مكة لتنتشر في مدن عربية عديدة، فعرفت كل مدينة أسواقها الخاصة، مثل سوق ”المربد” في البصرة، فقصدها الشعراء والخطباء والمتحدثون.
ومع ضعف وتحلل الدولة العباسية استقلت أمصار كثيرة عنها وكان لكل مصر منها مجالسه، ويذكر الكتاب أن نظام الدين الطوسي أول من أنشأ هذه المجالس في مطلع القرن الخامس الهجري، أما سيف الدولة الحمداني فحينما استقل بحلب أنشأ بها بلاطا قصده الأدباء والشعراء وقال فيه ابن خلكان “لم يجتمع بباب أحد من الملوك ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر”، وهو المجلس الذي بزغ فيه نجم أبوفراس الحمداني وأنشد فيه المتنبي.
ولم تكتف المرأة بارتياد الصالونات الأدبية بل دعت لها ونظمتها، وقد أرجع لها أول صالون أدبي– صالون عمرة– وذكرت صالونات أخرى قديمة مثل صالون السيِّدة سُكينة بنت الحسين، حيث جمع منزلها العديد من الأدباء والشعراء، فكانوا يحضرون ندواتها ويحتكمون إليها في ما ينشدون من أشعار.
وفي الأندلس صالون ولادة بنت المُستَكفي، وكانت شاعرة، وكان لها مجلس في قرطبة يؤمه الأعيان يصفه مؤرخ الأندلس ابن بسام بأنه كان مفتوح الأبواب دائما لعلية القوم مع صفوة الأدباء. ويضيف المؤرخ ابن بشكوال أنها دخلت في مباريات أدبية، وكانت النساء أيضا يفدن على صالونها كي يتعلمن فنون القراءة والكتابة والموسيقى، وممن ربطتها بهم أواصر الصداقة ابن حزم مؤلف كتاب ”طوق الحمامة”، وكان معجبا بأدبها، كما أنها كانت محبوبة الشاعر ابن زيدون.
ومن الأندلس إلى مصر المعاصرة، حيث يقفز المؤلف إلى أول صالون حديث في قصر الأميرة نازلي فاضل، وكان يتردد على صالونها كبار المثقفين من مصريين وأوروبيين، ومنهم الإمام محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين ومحمد المويلحي، بينما يكتفي بالإشارة إلى صالون ماريانا مراش وهي أول أديبة سورية برزت في مجالات الأدب والشعر والصحافة، ثم يتوقف الكتاب طويلا عند صالون مي زيادة.
بعث جديد
كان صالون مي زيادة ملتقى لشخصيات شهيرة متميزة امتد نشاطها فيه لمدة عشرين عاما يتبادلون الآراء من دون عائق أو تمييز، ومن أبرز هذه الشخصيات الدكتور مصطفى عبدالرازق وشبلي شميل وكانت بينهما خصومة فكرية، والشاعر مصطفى صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد الذي كان من ألد نقاد الرافعى، لذا وصفه طه حسين بأنه صالون “ديمقراطي” على العكس من صالون نازلي فاضل “الأرستقراطي”، بينما صاحب الكتاب لا يرى فارقا بين الصالونين إلا في خلو صالون مي من السياسة التي عج بها صالون نازلي.
ويرجع الباحث كثرة الصالونات النسائية قديما وحديثا إلى أن المرأة حرمت كثيرا من المشاركة في الحراك الثقافي العام، فآثرت أن تدعو هي رجال الفكر والأدب إلى بيتها حيث صالونها أو مجلسها لتتمكن من المشاركة التي حرمت منها، وبالتالي فإن نشاط المرأة المتميز في مجال الصالونات فرضه الواقع الذي همشها.
لقد نجحت الصالونات الأدبية في التعامل مع التغيرات الاجتماعية والثقافية، وهذا يؤكد الحاجة إليها ويدعم احتمالات بقائها واستمرارها في المستقبل رغم كل ما قد تواجهه من عوائق، ويقدم الكتاب ما يشبه المسح للصالونات الأدبية في أكثر من عاصمة عربية، فيرصد في القاهرة ازدهارها، فعلى سبيل المثال يذكر صالونات الشاعر أحمد تيمور، محمد حسن عبدالله وحامد طاهر، وفي السعودية يشير إلى النشاط المتنامي للأندية الأدبية باعتبارها شكلا من أشكال الصالونات، ويذكر صالونات أخرى مثل ”صالون محمد بن عبدالرحمن العقيل” وسبتية سعود بن سلمان آل سعود” وأحدية “راشد المبارك” ومن الصالونات الأدبية النسائية يشير إلى صالوني الأميرة سلطانة السديري والدكتورة وفاء المزروع، ويطوف بالصالونات في الكويت والإمارات والعراق والشام مما يؤكد أنها وجدت لتبقى وإن كانت قد ضعفت ذات يوم فها هي تبعث من جديد.