الاستاذ الدكتور / صلاح سلام يكتب.. الطبلية
كان في بيتنا الكبير في مدينتنا الصغيرة الذي تشغل مساحته الان خمس عمارات طبليتان خشب…واحدة صغيرة وهي مانتناول عليها الإفطار والعشاء واحيانا كثيرة الغداء ولي فيها مأااارب اخرى حيث كنت اذاكر عليها احيانا في سنوات الطفولة الأولى بديلا عن الانبطاح على الحصيرة لأكتب الواجب المنزلي والذي كان مقدسا حتى في الإجازات حيث كان المدرسون يحملون عقولنا الصغيرة تكليفات قد تغطي الاجازة وتزيد حيث كان البعض لايؤدون هذه الفروض ويعاقبون على ذلك…أما الطبلية الكبيرة كنا نراها فقط في المناسبات عندما يحل علينا ضيف قريب من نفس الاسرة او في الاكلة الكبيرة في طلعة رجب او الغدوة الطويلة وهي اليوم الذي يسبق بداية شهر الصوم وافطار الأعياد او النصف من شعبان وهو ماكانت تسميه امي ليلة السماح فتصعد على السلم الخشبي الذي كان يربطنا بجارتنا ام عصام وهي فلسطينية من مهجري ١٩٤٨ تستأجر احد بيوتنا هي واسرتها تطلب منها أن تسامحها ونفس الشيئ تفعله مع باقي الجيران ..وكانت هذه الطبلية مصدر سعادة لنا فعندما نرى امي تطلب مدها نعرف ان الاكل اليوم سمين وكنا نسمية”اكلة زفر”…و في اواخر رمضان حيث يجتمع عليها الجيران لعمل كعك العيد والبسكويت الذي تنطلق منه رائحة النشادر المخلوطة برائحة البرتقال فتشع في القلوب الصغيرة بهجة والنفوس الحزينة سعادة..فهذا الطقس المحبب إلى كل أطفال جيلنا قد نفتقده احيانا اذا كان قد مات عزيزا على الاسرة في وقت قريب فلا تقام هذه المراسم لأنها تكون نوعا من النقائص التي تلقى الاسرة عليه تقريعا وملاما… حتى الراديو لايجب أن نفتحه اذا اذاع اغاني وبعد أن دخل التليفزيون كان محرما طوال فترة العزاء…ولم نعرف ترابيزة السفرة الا انها تقبع في المنضرة وهي مكان استقبال الضيوف بجوار دولاب زجاجي به بعض اطباق الصيني والاكواب يتم استخدامهم وقت حضور زملاء أخوتي الكبار او زائر قادم من القاهرة .. ومن الأقوال المأثورة أن فلان شبعان على طبلية ابوه…والرمز هنا ليس بمعنى شبع المعدة وإنما عفة النفس والترفع عن الصغائر ونظافة اليد وعدم التجروء على حقوق الآخرين…ولاشك أن التجمع على الطبلية الكبيرة كان مظهرا من الألفة والمودة فتلتقي الاسرة في نفس التوقيت فالحدث ليس طعام فقط فالحديث قبل الأكل في متطلبات الحياة والدراسة والعمل ويستمر طوال مدة الطعام ولاينتهي الا بعد كسر البطيخة الكبيرة او الشمام في أيام الصيف او ماطاب من فاكهة الشتاء…وسبحان الله فقد كانت بيوت ليس بها لا طبلية ولا طعام وتسترها الحوائط وربما أيضا لايسألون الناس الحافا…فكم من اسقف كانت تبلل اصحابها اذا حل الشتاء وكم بيوتا هدمها المطر والتحف اهلها بالسماء…كم كانت مدينتنا الصغيرة فقيرة بمواردها وان كانت غنية بطيبة اهلها وتراحمهم فالفرح واحد والعزاء واحد. .نعن كانوا كالبنيان المرصوص ربما لان الفجوات الاجتماعية لم تكن كبيرة فكان الغنى غنى النفس …كم كان فضل الطبلية علينا عظيما فهي متعددة الثقافات. .. اكل ومذاكرة وسيلة تواصل اجتماعي وباعثة للفرح ومدرسة في تعلم آداب الطعام ..ثم كانت مضربا للامثال والحكم “بكسر الحاء” التي ترسخ التعامل بين البشر
ا.د صلاح سلام
استاذ بكلية الطب /عضو المجلس القومي لحقوق الانسان سابقا