عبدالحليم قنديل يكتب.. «خض ورج» أوروبا
قد لا تكون أوكرانيا وحدها ضحية العملية العسكرية الروسية ، بل ربما تكون أوروبا كلها هى الخاسر الأقرب ، فقد سحبت واشنطن دول الاتحاد الأوروبى من ورائها إلى حرب مجنونة، جعلت هدفها إضعاف روسيا وهزيمتها وتدميرها وتفكيكها إن أمكن ، وفرض الطرفان عقوبات غير مسبوقة فى التاريخ ضد موسكو، فوق الدفع إلى الميدان الأوكرانى بتدفقات سلاح متطور ، وبمعونات جاوزت المئة والعشرين مليار دولار إلى اليوم ، ومن دون أن يتحقق هدف دحر القوات الروسية ولا تركيع الاقتصاد الروسى ، الذى يتعافى من سلاسل العقوبات الغربية على نحو مدهش ، ثم يوجه الضربات المضادة لاقتصاد الغرب والاقتصاد الأوروبى بالذات ، ويباشر عملية “خض ورج” لأوروبا ، بهدف تدفيعها ثمن الجرى وراء الخطط الأمريكية ، ودفع الاتحاد الأوروبى إلى التشقق ، وجر حكوماته إلى التساقط تباعا.
فى الميدان العسكرى ، وعلى الخرائط قبل غيرها ، تبدو النتائج إلى اليوم محسومة ، فقد سيطرت روسيا على نحو ثلث أراضى أوكرانيا ، برغم إفراغ الغرب الأمريكى والأوروبى لمخزونات أسلحته فى أوكرانيا ، وفى حرب ذات طابع عالمى بكل معنى الكلمة ، تواجه فيها روسيا وحدها تحالفا من أكثر من ثلاثين دولة فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، ومن دول أخرى داخلة فى نطاق معنى “الغرب السياسى” ، برغم وجودها شرقا على الخرائط ، من نوع “اليابان” و”كوريا الجنوبية” و”استراليا” وغيرها ، وبرغم كل هذا الحشد الهائل ، لم تتزحزح القوات الروسية شبرا واحدا إلى الوراء ، باستثناء خروجها المبكر من حصار العاصمة “كييف” ، وإعادة توجيه مسار عملياتها إلى قوس الشرق والجنوب الأوكرانى ، والتمهل الملفت فى زحفها البرى ، وعدم زيادة عديدها المتواضع قياسا إلى المهمة ، فقد ظل عدد القوات الروسية عند حدود المئة والخمسين ألف جندى ، مع وجود دعم إضافى من نحو خمسين ألف متطوع من الحلفاء الأوكران ، ولم يقفز الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” إلى إعلانها حربا عسكرية شاملة ، ولا إلى إعلان الطوارئ ، ولا إلى تعبئة عامة ، قد يلجأ إليها مع دخول فصل الشتاء ، ويدفع بنحو خمسمائة ألف جندى روسى فى الميدان ، إن احتاج إلى اجتياح كامل لأوكرانيا ، التى تملك قوات يفوق عديدها السبعمائة ألف مقاتل ، حاول الغرب اختبارهم فى الأسابيع الأخيرة ، التى توقف فيها الزحف البرى الروسى تقريبا بأوامر مباشرة معلنة من “بوتين” ، وحاول الغرب استثمار الفرصة ، وتجريب قيادة هجوم أوكرانى مضاد إلى “خيرسون” عبر مقاطعة “ميكولاييف” المجاورة ، ومن دون أن يسفر الهجوم المضاد المدجج بأسلحة فائقة التطور عن شئ ملموس ، اللهم إلا فى مزيد من تدمير قوات النخبة الأوكرانية ، ومضاعفة استغاثات الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” لأمريكا والغرب بمواصلة الدعم بمئات مليارات الدولارات ، التى تواصل واشنطن الاستجابة لها ، بينما يبدى الأقربون الأوروبيون عجزا ظاهرا عن مواصلة الأشواط المرهقة إلى النهاية ، ويركزون اهتمامهم على مواجهة كوارث الاقتصاد وعجز الطاقة .
وبينما تبدو أمريكا مستفيدة من حاجة أوكرانيا ومحنة الطاقة الأوروبية ، وتكسب تشغيلا كاملا لمصانع سلاحها على مدى ثلاث سنوات مقبلة بعد نفاد المخزون ، وتعقد صفقات تسليح هائلة مع أوروبا المنهكة ، فوق تزويد أوروبا بشحنات الغاز الطبيعى المسال تعويضا عن تراجع إمدادات الطاقة الروسية ، وتكسب فى شحنة المركب الواحد مئة مليون دولار ، فيما لا تبدو روسيا بالمقابل فى حالة قلق على صادراتها من الطاقة ، برغم وصول التبجح الغربى إلى قرار وضع سقف لأسعار البترول والغاز الروسى ، وتسعير برميل البترول الروسى بنحو ستين دولارا ، وهو ما لا يؤثر على روسيا كثيرا بافتراض إمكانية تطبيقه ، فقد فتحت روسيا أسواقا بديلة جديدة باتجاه الصين والهند ودول عربية ولاتينية وغيرها ، وتبيع بترولها وغازها بأسعار تفضيلية مخفضة ، وهو ما زاد من تراكمات الحصيلة المالية الفلكية ، فروسيا تملك وحدها 30% من المعادن وموارد الطاقة العالمية ، وبحسب إحصاء أوروبى ، فقد حققت الخزانة الروسية 158 مليار دولار مضافة فى الشهور الستة الأولى للحرب ، واشترت منها الصين وحدها بما قيمته 35 مليار دولار ، بينما تدنى المدفوع من ألمانيا إلى 19 مليار دولار بعملة “الروبل” ، وهو ما يعنى أن بوسع روسيا الاستغناء عن عوائد تصدير الطاقة لأوروبا ، خصوصا بعد مد خطوط أنابيب جديدة مع الصين ، وعقد صفقات تصدير طويلة الأجل ، ومن دون أن يتأثر الاقتصاد الروسى ، الذى أبدى تماسكا مذهلا للدوائر الغربية ، ونزلت معدلات التضخم فيه إلى نحو 12% ، بينما يجتاح التضخم والركود اقتصادات أمريكا وأوروبا ، وقد يصل فى بريطانيا مثلا إلى ما يزيد على العشرين بالمئة ، برغم أن بريطانيا لم تكن تستورد الغاز من روسيا ، لكن وجود موسكو فى قلب معادلة الطاقة العالمية ، ونجاحها فى التفاهم الوثيق مع السعودية ومنظمة “أوبك” ، عبر صيغة “أوبك +” ، وقرار “أوبك +” الأخير بخفض إمدادات البترول للأسواق بمئة ألف برميل يوميا ، وبما يفشل خطة الغرب الأمريكى والأوروبى فى لجم أسعار البترول ، فوق تضاعف أسعار الغاز الطبيعى ، وقد تصل مع قدوم الشتاء إلى خمسة آلاف دولار مقابل كل ألف متر مكعب من الغاز ، وهو ما قد يعنى أن محاولات أوروبا لتعويض نقص واردات الطاقة الروسية ، وتنويع مصادر البترول والغاز ، من النرويج وأمريكا وقطر والجزائر ونيجيريا وشرق المتوسط وحتى من موزمبيق ، وكلها محاولات محمومة دائبة مع خطط ترشيد استخدام الطاقة ، لكنها لن تؤدى سوى إلى مضاعفة العبء المالى على الموازنات الأوروبية ، وزيادة تكاليف الطاقة بأوروبا إلى تريليونى دولار سنويا بحسب تقديرات بنك “جولدمان ساكس” ، وهذه بعض ضرائب حجب موارد الطاقة الروسية الأرخص والأسلس وصولا عبر خطوط أنابيب متشعبة ، بينها “يامال أوروبا” و”فيا أوكرانيا” “وساوث ستريم” وخط إضافى عبر البحر الأسود وتركيا ، فوق الخط الشهير المعروف باسم “نورد ستريم ـ 1” ، الذى يذهب عبر “بحر البلطيق” إلى ألمانيا ، ومنها إلى غيرها ، والذى أوقفت موسكو الضخ عبره إلى حين وصفته بالأجل غير المسمى ، وبدعوى الحاجة إلى صيانة توربيناته ، وفى خطوة ذات نفس عقابى لا يخفى ، تهدف منها موسكو إلى “خض ورج” الوضع الأوروبى كله ، فبرغم تحوطات عدد من حكومات أوروبا وأحاديثها عن ملء الخزانات بنسب كبيرة ، وتنامى الاستعدادت لمواجهة شتاء مقبل صعب ، وصفته رئيسة وزراء السويد بالشتاء “الحربى” ، إلا أن الاحتياج الأوروبى للغاز أبعد من احتياطات تدفئة المنازل فى الحد الأدنى ، و37 % من مصانع ألمانيا تعتمد على الغاز الروسى ، وهو ما دفع “ديمترى ميدفيديف” نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسى إلى السخرية من تصريحات المستشار الألمانى ، ووصف “أولاف شولتز” بأنه “العم شولتز” ، الذى يفرط فى الشكوى من استخدام موسكو لموارد الطاقة كسلاح سياسى ، ويتناسى تورط برلين فى العقوبات على روسيا ، وتزويد أوكرانيا بالسلاح الألمانى المتقدم ، وهو ما يعنى أن “بوتين” لاعب الشطرنج المحترف ، يلعبها بذكاء وثبات أعصاب ، ويبقى ألمانيا ومعها أوروبا معلقة على صليب الغاز ، ويواصل دفع حكومات أوروبا إلى الحائط ، ويشعل غضب الشعوب الأوروبية من حكوماتها المناوئة للكرملين ، وقد توالى سقوط حكومات أوروبية فى لعبة “دومينو” ، فقد ذهبت حكومة “بوريس جونسون” فى بريطانيا المأزومة ، وسقطت قبلها حكومة أعداء روسيا فى بلغاريا ، واستقوت حكومة “فيكتورأوربان” صديق روسيا فى المجر ، وسقطت حكومة “ماريو دراجى” فى إيطاليا ، ويرجح صعود حكومة إيطالية قومية صديقة لروسيا فى انتخابات أواخر سبتمبر الجارى ، فيما تجتاح المظاهرات عواصم أوروبية ، على نحو ما جرى فى مظاهرات السبعين ألفا فى دولة التشيك ، وإضرابات ومظاهرات المتضررين فى بريطانيا وفرنسا ، وهو ما امتد مؤخرا إلى مظاهرات سخط اجتماعى فى مدن ألمانيا من “ساكسونيا” شرقا إلى “كولونيا” غربا ، وكلها مظاهرات غضب أقرب إلى الإيقاع الروسى ، والضيق بالدعم الأوروبى لأوكرانيا ، والمطالبة بعودة الغاز الروسى ، وفتح خط “نورد ستريم ـ 2 ” ، الذى لم يستخدم أصلا ، ورفع العقوبات عن روسيا ، التى ارتدت بالخراب والكوارث وتدهور المعايش على شعوب أوروبا ، وهو ما تسعى إليه موسكو ضمنا وصراحة ، فهى تريد تأديب الحكومات الأوروبية غير الصديقة على يد شعوبها ، وتدير لعبة الغاز بحرفية متمكنة ، وقد تنهى “الأجل غير المسمى” فى الوقت الذى تفضله ، وقد تمده إلى صقيع الشتاء المهلك ، وإلى “حرب شتاء” فى الميدان الأوكرانى ، تفوز فيها روسيا كما تأمل بالضربة القاضية ، وكما هى العادة الحربية التاريخية ، خصوصا مع وضعها الاقتصادى المستريح نسبيا ، ومع توثق شراكة “بلا حدود” عسكرية واقتصادية ، تجمعها مع الصين الصاعدة إلى عرش العالم الجديد.