مضت أيام عام 2022، بأحداثها الثقيلة، التي ألقت بظلالها القاتمة على كافة نواحي الحياة بكافة دول العالم، الغنية منها والفقيرة، ولعل أبرز أحداث العام المنصرم، تلك التي بدأت يوم 24 فبراير، بالهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، لتتداعى من بعد ذلك الأحداث لمدى لم يكن يتخيله أحد. لقد كانت التقديرات، عند بدء تلك الحرب، أنها لن تزيد عن أربع إلى خمس شهور، في ظل كونها حرب بين دولتين فقط، وليست حرباً عالمية، إلا أنها أوشكت أن تُكمل عامها الأول، بعدما أثرت على العالم أجمع، خاصة في المجال الاقتصادي.
فقد ارتفعت أسعار النفط، وتلاه ارتفاع كافة السلع، وقل المعروض من الحبوب، فارتفعت أسعارها، التي هي غذاء سكان العالم، وارتفعت معها أسعار الزيوت والأسمدة، ونتج عن ذلك ارتفاعات مضطردة في معدلات التضخم، والبطالة، وصار الجميع يتساءلون، عما إذا كان عام 2023 سيكون استمراراً للعام السابق، أم سيكون عام سلام واستقرار، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وهو ما دفعني لاستعراض مؤشرات اتجاهات العام الجديد، وتحليل بعضها في سلسة من المقالات القادمة.
ولنبدأ بالولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت عام 2022، بتقديم الدعم الكامل لأوكرانيا، في حربها ضد روسيا، ومع نهاية العام، جرت الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، والتي فقد فيها الحزب الديمقراطي، المُنتمي له الرئيس الحالي، جو بايدن، أغلبية مقاعده في مجلس النواب، ليضع الرئيس الأمريكي، خلال العامين القادمين، في موقف حرج، أو كما يُطلق عليه مصطلح “البطة العرجاء”، أو “The Lame Duck”، بمعنى أن أي قرار يصدر عن الإدارة الأمريكية الحالية، ويستلزم موافقة مجلس النواب، غالباً ما سيتم عرقلته. ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع حتى عام 2024، لحين انتهاء مدة رئاسة بايدن الحالية، وإجراء الانتخابات الرئاسية القادمة.
ومع تفوق الحزب الجمهوري في الكونجرس، من البديهي أن يقلل جو بايدن من دعمه لأوكرانيا، في الفترة القادمة، بعد شهور من الدعم المطلق، في الفترة السابقة، الأمر الذي سيصبح أحد أهم دوافع اللجوء إلى حل سلمي للحرب الروسية الأوكرانية. خاصة بعدما أعلن جو بايدن، خوضه للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، مما سيدفعه ليكون أكثر حذراً، في قراراته التالية، في ظل تربص الحزب الجمهوري بإدارته، وعلى رأسهم ترامب، الذين يروا في الدعم الأمريكي لأوكرانيا، سبباً جوهرياً في استمرار تلك الحرب.
وباقتراب دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها ثاني، تكون روسيا قد استولت على 20% من الأراضي الأوكرانية، بعدما ضمت أربع جمهوريات أوكرانية إلى سيادتها، وهو ما سيزيد الأمور تعقيداً عند الدخول في مباحثات سلام مستقبلية. ولخلخلة تلك التعقيدات المتوقعة، وإجبار أوكرانيا على الدخول في مفاوضات سلام، تعمل روسيا، حالياً، على تحسين أوضاعها الدفاعية على الأراضي الأوكرانية، مع متابعة شن ضربات صاروخية، وجوية، ضد البنية التحتية الأوكرانية، وخاصة محطات الكهرباء. بالتزامن مع استمرار استراتيجيتها في تقليل إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا، للضغط على شعوب تلك الدول بإجبار حكوماتهم، بوقف الدعم لأوكرانيا، للدخول في مفاوضات سلام.
وتشير معظم التحليلات الاستراتيجية إلى أنه من المُنتظر أن تبدأ تلك المفاوضات في شهر مارس القادم، بعدما تنقشع رياح وثلوج الشتاء الباردة، وتكون أوكرانيا، ومعها الدول الأوروبية قد أنهكها برد الشتاء، وهو ما سيجعلها تتحد أمام هدف واحد، وهو إنهاء حالة الحرب، والجلوس على مائدة المفاوضات، للحد من شراسة الدب الروسي، التي قد تزيد الأمور المعقدة، تعقيداً، وهو ما يفسر ارتفاع الأصوات، مؤخراً، منادية بضرورة إيقاف نزيف هذه الحرب. وهو ما أكده هنري كيسنجر في مقاله الأخير بمجلة Spectator، الذي أوضح فيها أن الحرب الروسية الأوكرانية، لن تنتهي بالقتال، بل بمفاوضات سلام، مقترحاً إجراء استفتاءً دولياً محايداً، للمناطق التي ضمتها روسيا من أوكرانيا، لتحديد مصيرها.
وخلال مجريات تلك الحرب، ظهرت مشكلة التهديد النووي، وهو ما أرجو أن يكون واضحاً للجميع، بأن قيام أي من الأطراف باستخدام السلاح النووي، أمراً مستبعداً، لأن المخزون النووي لروسيا، أو أمريكا، يمكنه تدمير العالم كله، وهو ما لا تستهدفه تلك الأطراف. إلا أنه من الوارد استخدام القنبلة النووية التكتيكية، ذات الاثر المحدود. وطبقاً للعقائد العسكرية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، فإن استخدامها، يكون في حالات تهديد الأمن القومي لأحدهما، أي عند الهجوم المباشر على أراضيهما، لذا كانت أوامر أمريكا واضحة، عندما دعمت أوكرانيا بالصواريخ هيمارس، التي يصل مداها لنحو ثمانون كيلومتر، بألا تستخدمها، أوكرانيا، لضرب العمق الروسي، لكيلا تعطي روسيا الحق في استخدام القنبلة النووية التكتيكية.
أما التحول الجديد الذي سيظهر في عام 2023، فهو اتجاه الولايات المتحدة لتعزيز تواجدها في أفريقيا، بعدما كشفت لها الأزمة الروسية الأوكرانية، ميل معظم الدول الأفريقية ناحية روسيا، والصين، وهو ما تجلى من خلال نتائج التصويت، في الأمم المتحدة، على أي مشكلة في هذا الشأن، والذي تعود أسبابه إلى التغلغل الصيني، والروسي، وحتى التركي، في الدول الأفريقية، من خلال شراكات اقتصادية هامة. وقد بدأت ملامح هذا التحول في نهايات العام الماضي، عندما عقدت الولايات المتحدة مؤتمر قمة للقارة الأفريقية، قررت خلاله تخصيص 55 مليار دولار لدعم دول القارة السمراء.
وفي المقالات القادمة سوف نناقش معاً الخطر الصيني، الذي أصبح العدو الأول للولايات المتحدة، وسنستعرض تطور القوة العسكرية اليابانية، ووضع إيران وأهدافها، ومعها تركيا، ثم موقف القضية الفلسطينية بعد الانتخابات الإسرائيلية.