محسن قلاده يكتب .. العولمة والأسئلة المحرمة
لقد شرفت بحضور فاعاليات مؤتمر فرسان الكلمة الذي نظمته مؤسسة ” هارموني ايجيبت ” تحت رئاسة وإشراف الدكتوره عبير حلمي، وقد كان المؤتمر ثري جدا بضيوفه وحضوره حيث جمع كوكبة رائعة من رجال ونساء لهم باع وصيت هائل فى عالم الكلمة، بجانب الفقرات الفنية التى أضافت البهجة للحضور ، وجعلت لليوم رونق خاص ، ولكن بالنسبة لي كان موضوع المؤتمر هو مركز انتباهي، وخاصة أن المتحدثين يتميزون بالثقل والخبرة الكافية للتعامل مع هذا الموضوع، وبالطبع موضوع العولمة هو شائع الي الدرجة التى يمكن أن تجد فيه ملايين المقالات والاف الكتب فهو كان ومازال مصدر للعديد من الحوارات المحلية والعالمية منذ مطلع هذا القرن تحديدا ، وخصوصا مع التقدم والتطور التكنولوجي المتسارع فى السنوات الخمسين الماضية.
ورغم قوة ودقة الكثير من الخطابات التى القيت فى هذا المؤتمر من السادة المحاضرين الا أن كلمة الدكتور عبد الحليم قنديل كانت مثيرة جدا بالنسبة لى علي المستوى الفكري، وتولدت لدى مجموعة من الأسئلة مرتبطة أكثر بما طرحه الدكتور عبد الحليم ، وحتى تكون مشاركاً معي فى هذه الأسئلة سأحاول طرح ملخص بسيط لكلمة الدكتور قنديل لتنير لك مسارات هذا المقال، لقد تحدث الدكتور عن مراحل ظهور وتطور العولمه، وأكد على أنها فكرة قديمة قدم رغبة البشر فى الاتحاد والعيش فى اطار نسق واحد شامل، ثم تعرض للتطور التاريخي لهذه الفكرة، وقد أكد أن الغرب كان يسيطر على معظم العالم المعروف وحوله الى مستعمرات يستفيد منها، ثم تمكن من خلال ذلك أن يسود العالم حتى أصبحت الحروب الغربية حروب عالمية، ثم انتقلت السيطرة الى أمريكا ثم ظهر صراع القطبين، ثم القطبية الواحدة، والأن نحن فى وسط مرحلة التوزيع الجديد للقوى، وما أكده وشدد عليه الدكتور أننا لم نكن أبدا خلال تلك الفترات كدولة مصرية لاعب أساسي أو مؤثر فى تلك الحركة التاريخية، ولكننا فى الغالب كنا مشاركين وفى الأغلب تابعين، وهنا يظهر أول أسئلتي المحرمة لماذا أصبحنا هكذا؟ ويلاحقه الثاني الى متي سنظل هكذا؟ وقد حاول الدكتور قنديل طرح مخرج لهذه الأزمة، أو محاولة للأجابة على تلك الأسئلة بطرح نموذج للخروج، أو العبور من تلك الحالة والتى أطلق عليها حالة المشابهة بمعني أننا نشبه الحقيقة ونقلدها فى كل شئ لكننا كمجتمع لسنا حقيقة على كل المستويات، لذا قدم هذا النموذج الذى سوف أقدمه لك، وبعد ذلك نتناقش ونتحاور حوله.
لقد طرح الدكتور قنديل خمس محاور يجب التعامل معها بتزامن واحد، بمعني أن نعمل عليها كمراحل متوازية وليست متتالية، فلا يوجد عنصر أهم وأسبق من الآخر ، فهى تشبه الوصفة الطبية المكونة من خمس أنواع من الأدوية التى يجب تعاطيها معاً حتى تؤتي ثمارها، وهذه العناصر هى كالتالى
1 – استقلال القرار السياسي
وقد أوضح الدكتور قنديل أننا رغم التقدم الهائل المحرز فى هذا الملف إلا أننا مازلنا فى تبعية ما، وبشكل أو آخر للهيمنة السياسية الأمريكية، ويجب التخلص من هذا.
2 – أولوية التصنيع الشامل
وأوضح الدكتور قنديل أنه يجب الانتباه الى أن كل الدول التى احرزت تقدما اقتصاديا، هى التى أسست للتصنيع الشامل وبدون هذا لن نستطيع ولن نتمكن من الخروج من أزماتنا الاقتصادية.
3 – رد اعتبار العدالة الاجتماعية
وقد أوضح الدكتور الفارق بين العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي من حيث الشكل والمضمون، وأنه لا يجب بأى شكل الخلط والمزج بينهما فهما نسقان مختلفان.
4 – كنس امبراطورية الفساد
وأشار الدكتور بشكل واضح أنه قصد كل لفظ فى هذا العنوان، لأنه يرى أن الفساد تغلغل فى المجتمع الى الدرجة التى كاد أن يصبح دين مواز للأديان الموجوده فى مجتمعنا، وهذا أمر لو تدرون خطير جدا.
5 – اطلاق الحريات العامة
أشار الدكتور بشكل واضح الى أن من الضرورى تحديد وتوصيف الارهاب بشكل محدد حتى يعود المناخ السياسي والاجتماعي لحرية التفاعل المنتجة للتطور المجتمعي، والذي بدونه لن تتقدم هذه الأمة قيد أنملة .
وبعد أن طرحت أمامك نموذج أو وصفة العلاج التى طرحها لدكتور، والتى نتفق معها جميعا دعني أسألك هل هذه الوصفة تكفي، أم نحن نحتاج الى مراجعة أسبق، وتصحيح أهم على مستوي الوعي المجتمعي، فالطرح المقدم من الدكتور قنديل ممتاز وقيم جدا لكنه يصلح لمجتمع يبحث عن طريق للنهضة، ولكن سؤالي المحرم الأساسي هل نحن مجتمع حقيقي ؟ بمعني الا ترى معي أننا نعاني من كارثة مجتمعية، وهي عدم رؤية الآخر فنحن لا نرى الوطن كمجتع مشاركة، ولكننا نراه ونحياه كمجتمع مغالبه فمن يغلب يحكم، ويتم بناء على هذا تهميش وتجهيل وتحقير الآخر ،وهذه المغالبة تحرمنا من مشاركة الأخرين والاستفادة من خبراتهم، ولن يكون هناك مستقبل لمجتمع لا يشارك كل فئاته وطبقاته وانساقه فى تطويره وتقدمه وبنائه.
نحن نعاني منذ عقود من حالة شديدة من الاستقطاب الديني جعلتنا نميز الاخر، ونصنفه طبقا لدينه مما حرمنا من التعاون المجتمعي، والمشاركة البناءة، وتقدير الكفاءات أى كان نوع انتمائها الديني وهذه الحالة جعلتنا نفرخ أجيال كامله تفتقد لأهم عناصر المجتمع المتقدم وهي قبول الآخر، والاعتراف بكل حقوقه والزامه بكل واجباته، فالأزمة ليست فى علاج الضعف السياسي، ولا فى اصلاح الاقتصاد، ولا فى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولا فى مكافحة الفساد واطلاق الحريات، بل بكل بساطة أعطني مجتمعا يقبل ويعترف بالآخر ويشاركه ويتعاون معه فى تقدم هذا المجتمع وقيادته، عندها اعطيك مجتمعا ناهضا متقدما، يسيطر على ويحل كل أزماته، ” ما اطرحه هنا بعيد تماما عن فكرة الاضطهاد الديني، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي حقق خطوات واسعة فى القضاء على هذه الفكرة تماما، بل أنه يمارس نوعا من التمييز الايجابي للأقباط والمرأة، وذوي الاحتيجات الخاصة، والمهمشين، وهذه جهود لا يمكن إنكارها ولا المزايدة عليها، ولكن ما اتطرق نحوه بوضوح هو التغيرات الجذرية التى يجب إحداثها فى المجتمع ” ولشرح ما بين القوسين فيما سبق افتح عينيك قليلا على هذه العبارة ” اليابان مجتمع به مليون إله وربما أكثر، ولكن نحن نطلق عليها دائما كوكب اليابان من فرط الاعجاب، ومن عظم وهول المسافة الحضارية التى تفصلنا ” عزيزى اليابان لم تبني حضارة متقدمة دون بناء الإنسان الياباني، هذا الإنسان الذي كان حاضرا فى كأس العالم الماضية، وبعد نهاية المباراة قام بجمع كل المخلفات التى تسبب بها حتي يضعها فى مكانها، بينما لم يفعل أحد ذلك.
وهنا الفارق الإنسان ياساده قبل كل الخطط، وقبل كل طرق الاصلاح لنبني الإنسان لنصحح الرؤية التعليمية، لنفصل الدين عن الدولة، لنعطي الموهوب، والمتميز، وصاحب الأفكار الأبداعية مساحة للتقدم دون فصل، ودون تمييز.
ولا تقتصر القصة على هذا، ولكن نحن كمجتمع نحتاج لمجموعة هائلة من المراجعات، لأن وسائل الاتصال والسوشيال ميديا تفصل أفراد المجتمع وتعزلهم، وتغيبهم عن الواقع فيتوقفوا عن المشاركة فى مجتمعهم، والانتباه لقضاياهم، بل تقدم لهم مجتمعات تخيلية بديلة، وسؤالى المحرم التالى هل هذا ما نريده ؟ مجتمع مكون من أفراد منفصلين مغيبيين داخل شرانقهم الخاصة، لا يقدمون تفاعلا حقيقيا وليس لديهم علاقات حقيقية.
وعندما يتم تحويل المجتمع الى هذا الشكل فبالضرورة لن يكون هناك أهمية للأوطان، ولا الحدود، ولا اللغة الخاصة، ولا القيم المشتركة، ولا العادات والتقاليد، ومن السهل تحويل هذا المجتمع وبدون أى تحركات عنيفة الى أفراد مجرد أفراد يوضع لهم نظام عالمي واحد يشملهم، ويسيطر عليهم، ولا يشاركون فيه بل يستعملونه، وهو بالتالي يغذيهم بما يرغب به أصحاب هذا النسق، ربما تجرأت وتجاسرت وكشفت لك ما لاترغب فى رؤيته، ولكن ربما هذا لن يحدث فى جيلنا أنا وأنت، ولكنه سيحدث لا محاله الا أذا انتبهنا.
والسؤال المحرم الأخير هل هناك أمل ؟ لا أكذب عليك فنحن لسنا فاعلين، ولا مساهمين بأى شكل أو صورة فى هذا النسق، لذا المنطق الرقمي الذي يحكمنا والتفكير المنطقي الآلى الذي أصبح يسيطر علينا يطرح اجابة واضحة لا لايوجد أمل، ولكن دعني أقدم لكل قضمة من ثمرة الفاكهة المحرمة، والتى لن يسمح لك هذا النسق بتذوقها تلك القضمة هى ” الانسان هو القضية والإنسان هو الحل “.
فى النهاية اسعدني كثيرا حضور هذا المؤتمر وشرفني، وزادني وعياً، وأثراني معرفة بفضل الكوكبة الرائعة من الحضور والمحاضرين، وخصوصا الأستاذ الفاضل والمحاضر الرائع والكاتب المميز الدكتور عبد الحليم قنديل، ولا يسعني إلا أن أقدم خالص شكري وامتناني لشخص الدكتورة عبير حلمي على اتاحة تلك الفرصة لي جزيل الشكر، وخالص الامتنان، دمتم أعزائي فى كل سعادة وسرور.