معلومة تهمك.. الذاكرة والنسيان
الذاكرة والنسيان |
عند الحديث عن الذاكرة لا يمكن إغفال الوجه الآخر أو ” النسيان ” وإذا كان الفهم السائد يشي بنقيض التذكر ،إلا أن النسيان جزء حيوي من نظام الذاكرة بشكل عام ، فالنسيان وظيفياً مرتبط بمراحل الذاكرة المتعددة ،أي اكتساب أو حفظ أو الاحتفاظ بالمعلومات و من ثم تقوية القدرة على الاسترجاع، فقد ننسى لعدم الاستقبال الجيد للمعلومات ، إما بسبب غياب الانتباه أو عدم الاهتمام أو أن سعة التخزين خاضعة لشروط عضوية و نفسية يتم من خلالها حفظ بعض المعلومات أو الأحداث و التخلص من أخرى، و عدم الدراية بمسار الذاكرة يدفعنا إلى أن النسيان بالنسبة لنا لا يتبدى إلا عند محاولتنا استعادة أو استرجاع بعض المعلومات فلا نستطيع، و إذا كان النسيان يقلقنا لأننا نريد أن نتذكر ، فنت لايجب أن ننسى أن من الذكريات ما يقلقنا فنتمنى أن يلفها النسيان.
في توصيف ظاهرة النسيان يقول مؤلف كتاب ( سيكولوجية الذاكرة ) : هناك نوعان من النسيان يرتكز عليهما علماء النفس أولهما : التلاشي أو الذبول السلبي الذي يرتبط بالذاكرة قصيرة الأجل ذلك أن المادة لم يتم التعامل معها بشكل مركزي و مباشر عن طريق الانتباه .
ثانياً : التداخل الفعال الذي يعمل لفترات زمنية أطول و يرتبط بالذاكرة طويلة الأجل حيث يحدث النسيان نتيجة تداخل معلومات حدثت قبل أو بعد المعلومات المستهدفة .. و هنا تجدر الإشارة إلى أن زخم المعلومات المتسارعة و القصيرة و غير المترابطة في زمن تكنولوجيا المعلومات جعل النسيان ظاهرة عامة.
و عادة ما يتم تفسير النسيان بوصفه ظاهرة سلبية تتعارض مع نشاط التذكر كظاهرة إيجابية، بمعنى تعطل القدرة العقلية بشكل جزئي أو كلي ، نتيجة أسباب نفسية أو عضوية أو بسبب التقدم في العمر أو بسبب إيقاع الحياة المتسارع ، و الاعتمادية المتزايدة على التسجيل و التخزين الإلكتروني. و نستخدم تعبيرات مثل ” فقدان الذاكرة ” كدلالة مرضية أو ” ذاكرتي خانتني ” كحدث عارض أو مؤقت. و هكذا يبدو النسيان بوصفه قصوراً مزمناً أو شللاً مؤقتاً في القدرة العقلية و النفسية على استرجاع المعلومات و الأحداث، فيسعى البعض – و ربما هذا صحيح من الناحية الوظيفية – إلى تجنب ذلك و معالجة عوارض النسيان من خلال التدريب على التذكر و معالجة النسيان ، و لعل كلمة ” المذاكرة ” ذات دلالة في هذا السياق ، و كأن فعل التعلم هو في جوهره تدريب على التذكر من خلال الانتباه و التركيز و الحفظ و تخزين المعلومات.
و بالمقابل فإن العلماء و المتخصصين اهتموا بدراسة ظاهرة النسيان ليس بوصفها عملية “سلبية” بل بوصفها عملية عضوية حيوية، ففهم النسيان يعني فهماً أفضل و أشمل للأداء الوظيفي للذاكرة .. و في هذا السياق يرى فصيل من العلماء أن النسيان ليس عجزاً، بل هو عملية جوهرية في نظام الذاكرة. و خلص بعض علماء بيولوجيا الأعصاب إلى وجود مادة عضوية ( إنزيم PPI ) ، تسمى “جزئية النسيان” من مهامها حذف معلومات من الذاكرة لتفادي حشو الدماغ،إذ يرى العالم ” إريرك كندل ” من جامعة كولومبيا بنيويورك ، الحاصل عل جائزة نوبل في الطب علم ٢٠٠٠ عن أبحاثه في مجال الذاكرة ، هو في حد ذاته خطوة عملاقة للأمام تثبت لنا ما لم يدركه الكثيرون قبلة الآن: و هو أن النسيان ،ليس مجرد ظاهرة عادية و متوقعة نتيجة لتقدم العمر ،و إنما هو عملية بيولوجية نشطة و دقيقة و منضبطة ، مما سيجعلنا نعيد النظر في بعض الثغرات الصغيرة التي تصيب ذاكرتنا ، عندما يزعجنا ضياع المفاتيح أحياناً ، وضياع النَظّارة أحياناً أخرى، تقول الباحثة ” إيزابيل مانسوي “: إنه حينما تقوم جزيئة النسيان العضوية بحذف بعض الذكريات أثناء حالة تعلم مكثفة ؛ فإنها تحميها دوائر ذاكرتنا من خطر الازدحام و التشبع .. و حينما تعمل على مسح الذكريات المخزونة فإنها تساعد دماغنا على فرز ما يصلح لتناسق و توازن شخصية الفرد ، و ماهو أقل صلاحية و ما لا يصلح على الإطلاق.
يتزايد الاهتمام الآن بالعلاقة بين الذاكرة البشرية و الذاكرة الإلكترونية. و مما لاشك فيه أن الإنفوسفير أو الغلاف المعلوماتي و تكنولوجيا المعلومات بزغت كمنافس و لاعب رئيس في مجال تسجيل و أرشفة و تخزين و معالجة البيانات و المعلومات و مع ذلك ربما علينا أن نتنبه إلى مسألتين أساسيتين :
أولهما : منظور الذاكرة ، فإن هذه العمليات التقنية تفتقر إلى البعد الحيوي الذي يميز الذاكرة الإنسانية
تانياً : من منظور النسيان ، فإن هذه العمليات التقنية – يالاضافة إلى الإيقاع السريع لتدفق البيانات و المعلومات – تسلب الذاكرة البشرية حيويتها ،و تجردها من ميزتها الطبيعية بالمزاحمة و الاتكالية و تحفيز الذاكرة قصيرة الأجل و التي هي ذات سعة كبيرة و لكنها محدودة ، يمكنها استقبال كماً هائلاً من المعلومات و التخلص منها بسرعة استقبالها و بناءً عليه فإن الذاكرة الإلكترونية التي باتت تشكل امتداداً غير حيوي و غير مسيطر عليه لذاكرتنا الحيوية ، قد تساعدنا على التسجيل و الأرشفة و التخزين و لكنها تحرمنا من حيوية الذاكرة ، و من حقنا في الخصوصية و النسيان ؛ فثمة أحداث و معلومات تخصنا يتم تسجيلها و الاحتفاظ بها تكنولوجياً في في المجال الافتراضي ، و تبقى هناك مع أنها اختفت من الذاكرة الحيوية و تلك المسألة قد يكون لها تبعات نفسية و اجتماعية.